ورد في الفصل الأول من كتاب" ظاهرة الشعر الحديث" ما يأتي:
" أراد الشّاعر الوجدانيّ، أن يجعل للصورة وظيفة أساسية، وأن تكون هذه الوظيفة معبّرة من تجربته الذّاتية، ومن رؤيته للحياة، عبر تلك التجربة، ولم يعد التدبيج والزخرفة هدفه الأساسي من استخدامها..." أحمد المعداوي المجاطي: ظاهرة الشعر الحديث، شركة النشر والتوزيع-المدارس . الدار البيضاء، ط2-2007، صص: 43-44.
انطلق من هذه (القولة) ومن قراءتك المؤلف النقدي، ثمّ أنجز ما يلي:
-ربط القولة بسياقها داخل المؤلّف؛
-تحديد وظيفة الصورة لدى شعراء الاتجاه الوجداني؛
بيان المنهج المعتمد في دراسة ظاهرة الشعر الحديث.
التحليل:
يعدّ كتاب "ظاهرة الشعر الحديث" من الكتب الرّائدة في دراسة تطوّر الشعر العربي الحديث، بدءا من مدرسة إحياء النموذج وصولا إلى شعر تجديد الرّؤيا.فما موقع القولة داخل المؤّلَّف؟ وما وظيفة الصّورة الشعرية عند الرّومانسيين؟ وما المنهج الذي اعتمده النّاقد في دراسة ظاهرة الشعر الحديث؟
وردت القولة في سياق إبراز الخصائص الشكلية للشعر الرّومانسي، وذلك في الفصل الأول وتحديدا في القسم الثاني المعنون ب" نحو شكل جديد" الذي عرض فيه النّاقد لتطور القصيدة الرومانسية من ناحية اللغة والإيقاع والصورة الشعرية، التي صارت أكثر ارتباطا بالذات وتعبيرا عن الوجدان، رادّةً بذلك الاعتبار لذات الشّاعر التي طالما همّشتها الحركة الإحيائيّة، وهكذا لم تعد الصّورة الشعرية مستقاةً من الذّاكرة ومستدعاةً من المحفوظ الشّعريّ بل صارت نابعة من التجربة الذّاتية التي يحياها الشاعر، ومعبّرة عن رؤيته للحياة وفهمه لها، حيث ابتعد شعراء الرومانسية عن التدبيج والزخرفة والصنعة الفنية في إبداع صورهم، ونضرب مثلا لذلك بقول جبران:
هل تَخِذْتَ الغابَ مثلي منزلا دون القصور
وتبّعتَ السواقي وتسلّقت الصّخور
وشربتَ الفجر خمرا في كؤوس من أثير
ومن ذلك أيضا قول إبراهيم ناجي معبّرا عن فرحته بطريقة فيها كثير من الجدّة:
ومشيْنا في طريق مقمر تثبُ الفرحة فيه قبلنا
وضحكنا ضِحْكَ طفلين معا وعدونا فسبْقنا ظّلنا
فهذه الصورة تعبير عن شعور بالفرحة ، وهي نابعة من تجربة ذاتية عاشها الشاعر، ولم يسْتدْعها من الذّاكرة. وعليه ارتبط الشاعر الوجداني بذاته معبّرا عنها في حالاتها المختلفة، جاعلا الصورة الشعرية وسيلة لنقل حالات النفس في تقلّباها.
ووظّف النّاقد مجموعة من المناهج في دراسته لظاهرة الشّعر الحديث؛ فهناك المنهج التّاريخيّ الذي يبرز في التّحقيب التّاريخي للشعر العربي في بداية المؤلّف؛ بدءا من الشعر القديم ومرورا بالشعر الأندلسي، وصولا إلى الشّعر الحديث ممثّلا في تيارات الإحياء والرومانسية والتكسير، والمنهج الفنّي الذي يظهر في تقسيمه للمدارس الشّعرية حسب خصائصها الفنّية ومميّزاتها الجماليّة، سواء في اللغة أو الإيقاع أو الصور، وهي المدارس المعروفة والمتمثّلة في "إحياء النموذج وسؤال الذّات ومدرسة الشّعر الحديث"، كما يظهر المنهج الفنّي أيضا في دراسة شكل القصيدة الحديثة في الفصل الرّابع من خلال التّركيز على الموسيقى واللغة والتصوير، أما المنهج الثالث فهو المنهج الاجتماعي الذي يرصدُ تأثُّرَ الأدبِ بالمجتمع، ويبرزُ في ربْطِ تطوّر الشعر الحديث بنكبة فلسطين وما تلاها من تحوّلات عميقة في المجتمع العربيّ، ناهيكَ عن المنهج الأسطوري الذي يبرز في الفصل الثّالث أثناء تناول النّاقد لتجربة الموتِ والحياة والتركيز على أساطير الانبعاثِ والموت، كما نجدُ المنهج النّفسي حاضرا في حديثِ النّاقد عن غربة الشّاعر الحديث وضياعه الوجوديّ، وكيف أثّر عليه ذلك في إنتاج شعرٍ يتغنّى بالغربة واليأسِ ولقلقِ والسأم والتّشاؤم.
وبكلمة؛ استطاع الشاعر الرومانسي أن يجدّد في طبيعة صوره ويجعلها معبّرة عن ذاته ونابعة من تجربته، كما امتلك القدرة على التجديد النسبي في لغته وإيقاع القصيدة، وهو ما فتَح الطريق لحركة تكسير البنية لتحدثَ أكبر رجّة تجديدية في تاريخ الشعر العربي.
----------------------------------------------
التطور التدريجي في الشعر الحديث
تحت عنوان الشعر العربي بين التطور والتطور التدريجي،أشار الناقد إلى أن التجديد في الشعر العربي مرهون بجملة من الشروط، منها الاحتكاك الفكري مع الثقافات الأجنبية وآدابها،وتوفر الشعراء على الحرية.
وبتتبعه لهذا التطور في الشعر العربي القديم،وفي المحاولات التي قامت بها التيارات التجديدية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية،انتهى إلى أن هذا التطور كان تدريجيا، نظرا إلى أن هامش الحرية كان ضيقا.أما مع نكسة فلسطين، فقد أضحى الشاعر يمارس حريته بقدر كبير، وهذا ما جعل سقف التطور والتجديد يبلغ شأوا غير مسبوق.
وعلى هذا الأساس، ميز الدارس بين حركتين تجديديتين في الشعر العربي الحديث:
1-حركة واجهت الوجود العربي التقليدي وهو ما يزال قويا، فكان التطور بالنسبة إليها تطورا تدريجيا.وضمن هذه الحركة صنف الدارس جماعة الديوان، وتيار الرابطة القلمية، وجماعة أبولو؛
2-حركة واجهت الوجود العربي التقليدي وهو منهار، فكان التطور بالنسبة إليها كبيرا.
اثر ذلك، رسم المجاطي خطة دراسته،فهي تمر أولا بالوقوف على خصائص الحركة التجديدية الأولى ومميزاتها،أولا على مستوى المضمون، وثانيا على مستوى الشكل، انطلاقا من مقارنتها بتيار الإحياء.وهذا سيشكل مادة لفصل من قسمين،هوبمثابة مدخل لدراسة الحركة التجديدية الثانية دراسة تفصيلية.
القسم الأول: نحو مضمون ذاتي
قبل الحديث عن الاتجاه الذاتي،وقف الباحث قليلا عند التيار الإحيائي، الذي تمسك شعراؤه بلغة القدماء وأساليبهم البيانية ،بل واقتفوا آثارهم في المعاني والأفكار، فلم يلتفتوا إلى ذواتهم وواقعهم.غير أن هذا التيار سوف يتراجع بظهور تيار آخر، جعل من الاستجابة لنوازع الذات شعاره الدائم.وقد بدأ مع ظهور جماعة الديوان، وتبلور من خلال جهود تيار الرابطة القلمية، وجماعة أبولو.
أ-جماعة الديوان
لئن كان عبد الرحمن شكري، وعباس محمود العقاد، وإبراهيم المازني قد التقوا عند فكرة واحدة، هي أن الشعر وجدان،غير أن مفهوم الوجدان عندهم كان مختلفا.فقد أراده شكري تأملا في أعماق الذات،وفهمه العقاد على أنه مزاج من الشعور والفكر.أما المازني فقد رأى فيه كل ما تفيض به النفس، من شعور وعواطف وإحساسات.ونتيجة لذلك كله، اختلفت المضامين الشعرية لهؤلاء الشعراء.
وهكذا، يرى الباحث أن الجانب الفكري طغى على الجانب الشعوري في شعر العقاد،وهو ما استدل عليه بأبيات قالها الشاعر متغزلا.والغزل موضوع غنائي خالص،من وحي العواطف المطلقة.
أما شكري، فقد كانت نظرته إلى النفس والى الحياة من ورائها، وليدة تأمل حر عماده القلب.وهو بذلك لا يخالف العقاد فقط ،وإنما يخالف أيضا المازني الذي تعامل مع الأشياء تعاملا يقوم على الانفعال المباشر.نظرتان مختلفتان تتبعهما الناقد في بعض أشعار الرجلين.وعنده أن إيمان شعراء الجماعة بقيمة العنصر الذاتي استمد أصوله من أمرين: أحدهما أن شخصية الفرد المصري كانت تعاني من انهيار تام على جميع المستويات، وأن طبيعة الفترة التاريخية كانت تتطلب منه أن يعيد الاعتبار إلى ذاته.ثانيهما تشبعهم بالفكر الحر.على أن أثر الوجدان في شعر هذه الجماعة كان، في نظر الدارس، سلبيا لأنه كان يزرع الحزن والتشاؤم، عوض الأمل والنصر، وبذلك يكون هذا التيار قد مهد الطريق للاتجاه الرومانسي.
ب-تيار الرابطة القلمية
لاحظ الدارس أن شعراء الرابطة القلمية قد وسعوا مفهوم الوجدان، حتى يشمل الحياة والكون، وامتد إلى الذات الالاهية.على أن في شعر هؤلاء تصورا آخر، يتمثل في الهروب من الناس، ومن الواقع والحضارة.هذا الهروب تتبعه الناقد في بعض أشعار أقطاب هذا التيار، كجبران ونعيمة وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة.
وإذا كانت المرحلة التي كتب فيها هؤلاء تميزت بانتشار الوعي القومي، إلا أن تعبيرهم عن الذات ظل مرتبطا بمعاني اليأس والتردد والقناعة والاستسلام،وهذه مضامين لا تناسب المرحلة التاريخية.
ج- جماعة أبولو
اهتم شعراء هذه الجماعة بالموضوعات الشعرية ذات الطابع الذاتي الصرف.وقد تفرد أحمد زكي أبو شادي من بين شعراء هذه الجماعة، بكونه كان يعبر عن جانب من جوانب نفسه، حتى حين ينظم شعرا في الموضوعات المختلفة.هذا ما لا نجده عند شعراء هذا التيار. ذلك بأنهم، حين يستجيبون للأحداث القومية، ينظمون أشعارا يختفي فيها الوازع الذاتي، وبالتالي تصبح ذات طابع تقليدي، إلا أنها لا ترقى إلى ما وصل إليه شوقي وحافظ وغيرهما.وعليه فان ما يعتد به من شعر هذه الجماعة هو الشعر الذاتي، الذي يدور حول المرأة وما يثيره الحديث عنها من معاني الحنين، والشوق، واليأس، والأمل، والارتماء بين أحضان الطبيعة، أو الزهد في الحياة والاستسلام للموت.وقد ظل الشعراء يرددون المعاني نفسها حتى لم يعودوا يضيفون جديدا.
وتجميعا لما سبق عرضه،انتهى الناقد إلى أن أبولو وتيار الرابطة القلمية وجماعة الديوان قد خلفوا شعرا يتناول القضايا القومية والقضايا الاجتماعية بصفة عامة،غير أنه يرى أن ما يمكن أن يعتد به من شعرهم هو الشعر الوجداني الصرف.ويضيف أن إغراق هذا التيار في الانطواء على هموم الذات الفردية، سيؤدي إلى تدفق تيار آخر، أراد للذات أن تنفتح على ما حولها استجابة لمتطلبات المرحلة الجديدة التي أفرزتها كارثة فلسطين.
القسم الثاني: نحو شكل جديد
عمد الناقد إلى إبراز خصائص قصائد التيارات الوجدانية الحديثة ومميزاتها على مستوى الشكل .وهكذا فقد رأى أن لغة القصيدة الوجدانية، أقل صلابة من لغة القصيدة الإحيائية ،وأكثر سهولة ويسرا،بل إن شعراء هذا التيار اقتربوا في بعض قصائدهم من لغة الحديث المألوف.أما استعمالهم الصورة البيانية ،فقد جاء لغاية تعبيرية لا تزيينية،كما كان يفعل شعراءالاحياء الذين كانوا يعتمدون أساسا على الذاكرة في بناء صورهم.
ومن خصائص الشكل الأخرى في القصيدة الوجدانية الحديثة، ذكر الباحث الوحدة العضوية، التي تأتت من رغبة الشاعر الوجداني في ربط العواطف والأحاسيس والأفكار ببعضها.كما ربط الشاعر القافية بالأفكار والعواطف الجزئية.وهكذا راح يغير القافية بما يناسب التبدل الطارئ على الأفكار والعواطف.بل انه انتبه إلى علاقة أخرى تقوم بين العواطف والمعاني الجزئية وبين الأساس الموسيقي للقصيدة، بعيدا عن موضوعها العام.وهكذا نظموا قصائد ذات موضوع واحد، وقواف متعددة، وأوزان مختلفة.بهذا تحقق للقصيدة الوجدانية خاصتان أخريان هما تنوع القوافي واختلاف الأوزان.
ويرى الناقد أن هذه المكاسب تحققت فقط لنخبة من الشعراء الوجدانيين، وفي بعض قصائدهم ومقطوعاتهم المتفرقة.أما السبب في انحصار التطور والتجديد-على مستوى الشكل- في هذا الحيز الضيق من الشعر الوجداني، فيعود في نظر الدارس، إلى النقد المحافظ الذي تصدى لكل المحاولات التي استهدفت اللغة، والأوزان، والقوافي، والصور البيانية.ويرى أن نكبة فلسطين (1947) كانت إيذانا بميلاد حركة هدمت الشكل القديم، وأقامت على أنقاضه شكلا جديدا، أتاح للشاعر قدرا من الحرية، لم يكن متاحا له من قبل في تاريخ العالم العربي.
الفصل الثاني : تجربة الغربة والضياع
تمهيد:
أشار الدارس في البداية إلى وقع نكبة 1948على الأمة العربية الإسلامية، فقد كان بالقوة بحيث دعاها إلى إعادة النظر في كل ما يحيط بها.وفي خضم هذه الأجواء، أجواء المواجهة والشك، لم يبق للوجود العربي التقليدي هيمنته، وعاد الشاعر يتمتع بقدر كبير من الحرية، فانفتح على الأفكار والفلسفات والاتجاهات النقدية الغربية والثقافات العالمية، إلى جانب تعامله مع تراثه العربي الإسلامي وفق نظرة جديدة.وهكذا مزج في فكره ووجدانه، بين روح الثقافة العربية وبين الثقافات الأخرى.ونظر الشاعر الحديث إلى الأشكال والوسائل التعبيرية القديمة فوجدها غير مناسبة لتجربته.من هنا، بدأ البحث عن أشكال جديدة تلائم المضامين الجديدة، إلى أن استقر له شكل جديد يقوم على أساس موسيقي هو شعر التفعيلة الواحدة.
ويرى الدارس أن هذا الشكل بدأ يكتمل، وأسسه أخذت تستقر، خاصة عند بعض الشعراء المحدثين، ذكر منهم السياب والبياني وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي.
اثر ذلك، انتقل المعداوي إلى دراسة المضامين الشعرية الحديثة التي قسمها إلى تجربتين اثنتين: تجربة الغربة والضياع، وتجربة الموت والحياة.
1-تجربة الضياع والغربة: الغربة والضياع والتمزق من المعاني المستفيضة في الشعر العربي الحديث، وقد أرجعها بعض الدارسين إلى عوامل أهمها:
-التأثر بأعمال بعض الشعراء الغربيين؛
-التأثر بأعمال بعض الروائيين والمسرحيين الوجوديين وبعض الناقدين؛
-عامل المعرفة
وإذا كان الدارس لا ينكر هذه العوامل، إلا انه يعتبر أن النكبة كانت أهم عامل في الاتجاه بالتجربة الشعرية الحديثة نحوافاق الضياع والغربة.من هذا المنطلق، راح يدرس تجربة الغربة من خلال محاور أربعة:هي الغربة في الكون، والغربة في المدينة والغربة في الحب، والغربة في الكون.
1-الغربة في الكون
أحس الشاعر بوحدته وتفرده في الكون، فرسم لهذا الكون صورة مثقلة بالظلمة والمرارة والإحساس بالعبث، صورة تتبعها الدارس من خلال بعض المقاطع الشعرية والآراء النقدية.
2-الغربة في المدينة
لاحظ الناقد أن موضوع المدينة دارت حوله كثير من قصائد شعرنا الحديث. والسبب في ذلك، في نظره، يعود إلى أن الشاعر قد وجد في المدينة مجالا خصبا من أجل تحقيق هدفه، ألا وهو تفسير العالم وتغييره،هذا فضلا عن كون المدينة العربية قد فقدت كثيرا من مظاهر الأصالة.
وللتعبير عن هذا الإحساس، سلك الشاعر العربي سبلا مختلفة ذكر الدارس منها ما يلي:
-تصوير المدينة في ثوبها المادي وحقيقتها المفرغة من كل محتوى إنساني؛
-الناس داخل هذه المدينة صامتون يثقلهم الإحساس بالزمن؛
3-الغربة في الحب
مثلما فشل الشاعر في التلاؤم مع جو المدينة ومع من فيها ،فشل أيضا في تحقيق سكينة قلبه عن طريق علاقة الحب بمفهومه الروحي أوالجسدي، وهذا ما وضحه الناقد من خلال مجموعة من المقاطع الشعرية.
4-الغربة في الكلمة
لاحظ الناقد أن غربة الشاعر في الكلمة تأخذ أبعادا مختلفة، فهو غريب حين يمتلك حرية التعبير، وغريب حين يفقد هذه الحرية وغريب بمرارة واقعه، وغريب حين تعفه العبارة، وغريب حين تنفر منه وتجفوه.
ويضيف الناقد أن الغربة في الكلمة أوفي المدينة أو في الحب، ليست سوى وجه واحد من عدة أوجه لغربة الشاعر العربي في واقع ما بعد النكبة،وأن هذه الأوجه المتعددة للغربة تلتقي كلها في عدة محاور، من ذلك محور الموت، وصورة اليبوسة والتحجر، وصورة انحباس الأصوات وسيادة الصمت، وصورة ارتباط التجربة بالزمن على اختلاف في الهدف واستعمال الصور الزمنية.
وقد ارجع الناقد هذا الالتقاء إلى وحدة التجربة في نفس الشاعر، التي جعلت بعض الشعراء يمزج بين لونين من ألوان الغربة في القصيدة الواحدة، بل وأحيانا بين ألوان مختلفة ،على نحو ما فعل عبد الوهاب البياتي في" فارس النحاس".
وبعد أن تناول الدارس هذه القصيدة بالشرح والتحليل، أشار إلى أن المزج بين الألوان المختلفة من الغربة، يكشف عن التمزق النفسي والتمزق الروحي للإنسان العربي، كما يكشف عن تخبطه في تلمس سبيل الخلاص.وأضاف أن البياتي وظف الرمز الجزئي في هذه القصيدة، ومن الشعراء من وظف الرمز العام للتعبير عن تجربته.وقد قادته هذه الإشارة إلى إيراد قصيدة "الدارة السوداء" ليوسف الخال تناولها هي الأخرى بالشرح والتحليل.
وأشار الناقد إلى وجود ارتباط وثيق بين معاني الضياع والغربة، وبين معاني التجدد واليقظة والبعث، وان كان لا يبدو واضحا من أول وهلة.وعنده أن إيقاع التجدد والبعث والأمل بلغ أوجه في الارتفاع والتألق، في الفترة الواقعة بين تأميم القناة وبين واقعة الانفصال بين مصر وسوريا، على حين بدأ إيقاع اليأس يسود بعد هذه الحادثة الأخيرة.وقد تعرض المجاطي للجانب السلبي لهذه التجربة –تجربة الغربة-نشأ من تأثر بعض الشعراء الشباب بالأدب الوجودي،فراحوا يؤكدون رغبتهم في الانصراف عن الفعل ويعكسون مواقفهم العبثية عن الوجود،وما شابه من الإحساسات التي ليست لها أصول راسخة في تربة الواقع العربي.هذا الاتجاه كان له حضور في شعر صلاح عبد الصبور من خلال قصيدته"الظل والصليب"،في بعض اشعارالباسط الصوفي، منها قصيدته"أحزان قديمة"و"تثاؤب".هذه القصيدة اعتبرها الدارس خير ما يمثل هذا الاتجاه بعد قصيدة "الظل والصليب" ،لذا تناولها بالدراسة والتحليل.وقد انتهى إلى أن هذه القصيدة تفشل في إقناعنا بصدق عواطف الشاعر، وبصدق موقفه من الحياة، وانه موقف إعجاب عابر.
ولم يفت الناقد أن يرد على بعض النقاد الذين اتخذوا مواقف متحفظة من تجربة الغربة كلها. فقد رأى في مواقفهم هاته خلطا بين ما هوأصيل من تجربة الغربة ،وبين ما هو غير أصيل. وختم بلفت النظر إلى الدور الذي لعبته تجربة الغربة في تهيئ الشاعر الحديث لتجربة أخرى، هي تجربة الحياة والموت.
الفصل الثالث: تجربة الحياة والموت
أضاف الدارس إلى حديثة عن تجربة الغربة، حديثا أخر عن تجربة الموت والحياة.هذه التجربة التي يراها مشدودة إلى الواقع الذي يتضمن معنى الموت، كما أنها مشدودة إلى المستقبل الذي يحمل معنى التجدد والانبعاث. هذه التجربة لم تتقدمها-في نظر الناقد-إلا محاولة المهجريين في التعبير عن فكرة تناسخ الأرواح.غير أن تجربة المهجريين فقدت صلتها بالواقع الحضاري للأمة بإيثارها الحياة السهلة على معاناة الموت.من هنا يرى المجاطي أن تجربة الموت والحياة في الشعر العربي الحديث، أقرب إلى فكرة الفداء عند المسيحيين منها إلى فكرة التناسخ.والشاعر في ذلك مدعو إلى أن يحيل إحساسنا بالموت إحساسا بالحياة.ولما كان هذا مما لا يقبله العقل، التجأ الشاعر إلى الثقافات الإنسانية ينتقي منها الرموز والأساطير، التي تدور حول معاني التجدد رغبة منه في الوصول إلى إقناعنا وجدانيا.
اثر ذلك، خص الناقد بالدرس أربعة من الشعراء، اعتبرهم خير من يمثل هذه التجربة في الشعر الحديث ،وهم أدو نيس وخليل حاوي والسياب والبياتي،فبين أساليبهم في إدارة الحديث عن الحياة والموت.
وفي الخاتمة التي أعقبت هذه الدراسة ،أكد المجاطي أن الشعر الحديث، قد اضطلع بمهمته سواء على مستوى كشف الواقع أو على مستوى استشراف المستقبل،فضلا عن الروافد الثقافية المختلفة التي أغنت مضمونه، وميزته عن المضامين الشعرية التي سبقته.إلا أن هذا الشعر لم يحدث الأثر المرجو في المتلقين لمجموعة من العوامل، ذكر منها العامل الديني القومي، ومرده إلى الخوف من أن تكون وراء هذا التيار الشعري محاولة لتشويش الشخصية الدينية والقومية،العامل الثقافي، رفض بعض الشعراء والنقاد أي محاولة تجديدية.العامل السياسي، خوف الحكام من المضامين الثورية.
ويبقى أهم هذه العوامل –في نظر الكاتب-هو المتعلق بالوسائل الفنية المستحدثة، التي توسل بها الشعراء للتعبير عن تجاربهم، وهي موضوع الفصل الأخير من هذه الدراسة.
الفصل الرابع: الشكل الجديد
صدر الباحث دراسته بالإشارة إلى أن الشكل في الشعر الحديث شكل ينمو، وأن النمو مرتبط بنمو التجربة وتطورها.ومثل هذا النمو يحتاج إلى مسافة من الزمن، وأن الشكل والمضمون معا يتطوران في التحام تام.كما أشار إلى أن الشكل الشعري الحديث، بعد عشرين سنة من النمو، استطاع أن يتجاوز الشكل القديم.ثم انتقل لإثارة أهم القضايا المتعلقة بتطور العناصر الأساس للشكل الشعري، كاللغة والإيقاع والتصوير البياني،وعلاقة هذا التطور بظاهرة الغموض.
تطور اللغة في الشعر الحديث
بعد أن بين الباحث خطأ محمد النويهي ،لما اعتبر الاقتراب من لغة الكلام الحية ميزة أساسة وواحدة في لغة الشعر الجديد،انتقل لإبراز ما اعتبره ملامح حقيقية للغة الشعر الحديث.وأول قضية وقف عندها هي:
النفس التقليدي في لغة الشعر الحديث
ذلك بأن بعض شعرائنا المحدثين يؤثرون العبارة الفخمة والسبك المتين، حتى حين يعالجون أكثر التجارب حداثة.ويأتي في مقدمة هؤلاء السياب.وقد ساق الناقد مجموعة من الأمثلة التوضيحية تجلي ما ذهب إليه، وتقوم دليلا على أن لغة الشعر الحديث لم تكن كلها قريبة من لغة الحديث الحية.هذه اللغة خير من يمثلها أمل دنقل في ديوانه"البكاء بين يدي زرقاء اليمامة".وبهذا ينتهي الباحث إلى أن استعمال لغة الكلام الحية ليس سوى ملمح واحد من ملامح لغة هذا الشعر، أما الملمح الآخر فهو روح اللغة التقليدية.
البعد عن لغة الحديث اليومية
ابتعد الشاعر الحديث عن لغة الحديث الحية، واستعمل لغة تحمل مفرداتها قيما ودلالات مغايرة لما تحمله في الاستعمال الشائع.
السياق الدرامي للغة الشعر الحديث
الاتجاه بسياق اللغة إلى أعماق النفس، بدل الاتجاه به إلى الخارج، على النحو الذي هو مألوف في سياق اللغة لدى الشاعر القديم، كلام وضحه الناقد بمقطع من قصيدة" معزوفة لدرويش متجول" لمحمد مفتاح الفيتو ري.
التعبير بالصورة في الشعر الحديث
بعد أن ذكر بمميزات الصورة في شعر التيارات الجديدة-الحد من تسلط التراث على الأخيلة،ربط الأخيلة بآفاق التجربة الذاتية-أشارالى أن حركة الشعر الحديث أضافت إلى هموم الذات الفردية هموما أخرى،تتصل بالمجتمع كما تتصل بالتاريخ.
وفي هذا الصدد، ذكر أن الشاعر الحديث وسع الصورة لتتسع لأكبر قدر من الاحتمالات المتصلة بأعماق التجربة.وقد استدل على ذلك بمقطع من شعر السياب،الذي كان يميل أحيانا إلى الحد من اتساع مدلول الصورة.وقصد تسليط الضوء على هذا الجانب،وقف عند قصيدة"المغني والقمر"لعبد الوهاب البياتي.
وفضلا عن ذلك ،يرى الناقد أن بعض الصور تأتي مرتبطة ارتباطا عضويا بتجربة الشاعرفي آفاقها الواسعة،كما هو شأن السياب مع حركة الماء،بالإضافة إلى قيامها على الرمز والأسطورة.بهذا كله ابتعد الشاعر الحديث عن مفهوم الصورة البيانية في البلاغة القديمة، وهذا البعد ساهم في إبعاد شعره عن ذوق عامة الناس.
تطور الأسس الموسيقية للشعر الحديث
تحت عنوان الأسس الموسيقية للشعر الجديد، عرض الباحث لأهم التطورات التي تحققت للقصيدة العربية في الإطار الموسيقي الجديد.من ذلك تفتيت الوحدة الموسيقية القديمة، التي تتمثل في البيت الشعري، وأصبح ما يقابل البيت سطرا، يتعلق طوله وقصره بما يتضمن من نسق شعوري وفكري.وهذا النسق يتحكم أيضا في البناء العام للقصيدة.
وتبعا لما تقدم،لاحظ الباحث أن عدد البحور الشعرية المستخدمة في الشعر العربي الحديث،أقل كثيرا مما هو معروف في العروض الخليلي ،ومرد ذلك إلى أن الشاعر الحديث قد أدرك أن في وسعه أن يستخرج من البحر الواحد أكثر من بناء موسيقي واحد.وأضاف بأن من الشعراء من انصرف إلى الأبحر المختلطة، مسجلا بأن الطاقات الموسيقية لهذه البحور لم تستغل بالشكل المطلوب، إلا في حالات ناذرة.وارجع ذلك إلى أربعة أسباب هي:
1-مسألة الزحاف
بالزحاف أمكن للشاعر أن يكسر حدة التفعيلة،ويمنح إيقاعها مزيدا من التنوع والتلوين،دون أن يلجأ إلى البحور ذات التفعيلات المختلطة.(البحور المركبة)
2-تنويع الأضرب
لم يقم الشاعر الحديث وزنا لهذا الذي عد عيبا من عيوب القافية، وهو تنويع الأضرب بالبحر الواحد،فنوع إيقاع التفعيلة بما هو مقبول عروضيا من مشتقات التفعيلة نفسها.واستشهد على ذلك بأبيات من قصيدة "الخروج" لصلاح عبد الصبور،بل إن الشاعر تجاوز ذلك إلى استخدام مستفعلان في ضرب الرجز،وهو ما لم يقل به العروضيون،وهذا رغبة منه في تنويع الإيقاع في البحور الصافية.أكثر من ذلك، أدمج الشاعر الحديث بحرين متشابهين في بحر واحد.
3- فاعل في حشو الخبب
أصبحت فاعلن فاعل في حشو بعض أبيات الشعر الحديث.وقد حدث هذا التطور بسبب رغبة الشاعر الخفية في كسر حدة التفعيلة في البحور الصافية،وتنويع إيقاعها بالقدر الذي يغنيه عن الرجوع إلى البحور المختلطة.
4- مسألة التدوير
أشار الباحث إلى أن حركة المشاعر والأفكار والأخيلة، قد تأخذ شكل دفقة تتجاوز في اندفاعها حدود الشطر الشعري والبيت الشعري،وأن ذلك قد أدى إلى نتيجتين: أولاهما، التعبير عن الدفقة دون الوقوع في التدوير،ولكن باللجوء إلى تفعيلة خماسية وتساعية.ثانيهما، الوقوع في التدوير الذي نقل من الشطر إلى البيت (الشطر الثاني داخل الجملة الموسيقية).
نظام القافية في الشعر الحديث
تناول في هذا الجانب الطرائق التي تعامل بها الناقد مع نظام القافية. وفي هذا الشأن، سجل ثلاث ملاحظات: أولاها أن الشاعر الحديث تعامل مع القافية بصفتها نظاما إيقاعيا، يتكون من عدة أحرف على النحو المعروف في علم القافية، مع الحد من بروز إيقاع حرف الروي.وقد مثل لذلك بأبيات ثلاثة ختم بتا فواز عيد قصيدته"الكلدان في المنفى".
الملاحظة الثانية تتعلق باختلاف الأضرب في أبيات القصيدة، مع وجود نظام مرن يربط قوافي الأضرب المتنوعة.وهذه المرونة هي التي تمنح الشاعر حرية توحيد رنة القافية في الأبيات المتجاورة، أوفي الأبيات المتراوحة، أو أن يجاور ويراوح بالشكل الذي ينسجم مع الدفقة الشعورية، التي تقف خلف عملية الإبداع الشعري.وقد مثل لذلك بأسطر من قصيدة"أحلام الفارس القديم"لصلاح عبد الصبور.
أما الملاحظة الثالثة، فتتعلق بعلاقة نظام القافية بالجملة الشعرية.وقد حدد الباحث هذه العلاقة في نقطتين:
النقطة الثانية تخص الجمل الموسيقية المسرفة الطول، التي يبث في صلبها الشاعر بعض الوقفات، التي تضيف إلى موسيقى الوزن موسيقى أخرى يتيحها الصمت الذي يحدثه توقفنا بين الحين والأخر.وقد يشار إلى أماكن الوقف بعلامات الترقيم.
والنقطة الثانية، تخص الجمل الموسيقية المتوسطة الطول،وفيها راح الشعراء يعوضون عن القافية المتواترة والمتراوحة بقافية ذات نبر بارز.
خاتمة:
خلص الباحث إلى أن الحداثة أهم العوامل التي أدت إلى نعت الشعر الجديد بالغموض،والى ذلك أضاف عاملا أخر، أشار إليه الناقد الأمريكي ريتشاردز، وهو أن الإبهام من طبيعة الشعر الجيد
تحت عنوان الشعر العربي بين التطور والتطور التدريجي،أشار الناقد إلى أن التجديد في الشعر العربي مرهون بجملة من الشروط، منها الاحتكاك الفكري مع الثقافات الأجنبية وآدابها،وتوفر الشعراء على الحرية.
وبتتبعه لهذا التطور في الشعر العربي القديم،وفي المحاولات التي قامت بها التيارات التجديدية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية،انتهى إلى أن هذا التطور كان تدريجيا، نظرا إلى أن هامش الحرية كان ضيقا.أما مع نكسة فلسطين، فقد أضحى الشاعر يمارس حريته بقدر كبير، وهذا ما جعل سقف التطور والتجديد يبلغ شأوا غير مسبوق.
وعلى هذا الأساس، ميز الدارس بين حركتين تجديديتين في الشعر العربي الحديث:
1-حركة واجهت الوجود العربي التقليدي وهو ما يزال قويا، فكان التطور بالنسبة إليها تطورا تدريجيا.وضمن هذه الحركة صنف الدارس جماعة الديوان، وتيار الرابطة القلمية، وجماعة أبولو؛
2-حركة واجهت الوجود العربي التقليدي وهو منهار، فكان التطور بالنسبة إليها كبيرا.
اثر ذلك، رسم المجاطي خطة دراسته،فهي تمر أولا بالوقوف على خصائص الحركة التجديدية الأولى ومميزاتها،أولا على مستوى المضمون، وثانيا على مستوى الشكل، انطلاقا من مقارنتها بتيار الإحياء.وهذا سيشكل مادة لفصل من قسمين،هوبمثابة مدخل لدراسة الحركة التجديدية الثانية دراسة تفصيلية.
القسم الأول: نحو مضمون ذاتي
قبل الحديث عن الاتجاه الذاتي،وقف الباحث قليلا عند التيار الإحيائي، الذي تمسك شعراؤه بلغة القدماء وأساليبهم البيانية ،بل واقتفوا آثارهم في المعاني والأفكار، فلم يلتفتوا إلى ذواتهم وواقعهم.غير أن هذا التيار سوف يتراجع بظهور تيار آخر، جعل من الاستجابة لنوازع الذات شعاره الدائم.وقد بدأ مع ظهور جماعة الديوان، وتبلور من خلال جهود تيار الرابطة القلمية، وجماعة أبولو.
أ-جماعة الديوان
لئن كان عبد الرحمن شكري، وعباس محمود العقاد، وإبراهيم المازني قد التقوا عند فكرة واحدة، هي أن الشعر وجدان،غير أن مفهوم الوجدان عندهم كان مختلفا.فقد أراده شكري تأملا في أعماق الذات،وفهمه العقاد على أنه مزاج من الشعور والفكر.أما المازني فقد رأى فيه كل ما تفيض به النفس، من شعور وعواطف وإحساسات.ونتيجة لذلك كله، اختلفت المضامين الشعرية لهؤلاء الشعراء.
وهكذا، يرى الباحث أن الجانب الفكري طغى على الجانب الشعوري في شعر العقاد،وهو ما استدل عليه بأبيات قالها الشاعر متغزلا.والغزل موضوع غنائي خالص،من وحي العواطف المطلقة.
أما شكري، فقد كانت نظرته إلى النفس والى الحياة من ورائها، وليدة تأمل حر عماده القلب.وهو بذلك لا يخالف العقاد فقط ،وإنما يخالف أيضا المازني الذي تعامل مع الأشياء تعاملا يقوم على الانفعال المباشر.نظرتان مختلفتان تتبعهما الناقد في بعض أشعار الرجلين.وعنده أن إيمان شعراء الجماعة بقيمة العنصر الذاتي استمد أصوله من أمرين: أحدهما أن شخصية الفرد المصري كانت تعاني من انهيار تام على جميع المستويات، وأن طبيعة الفترة التاريخية كانت تتطلب منه أن يعيد الاعتبار إلى ذاته.ثانيهما تشبعهم بالفكر الحر.على أن أثر الوجدان في شعر هذه الجماعة كان، في نظر الدارس، سلبيا لأنه كان يزرع الحزن والتشاؤم، عوض الأمل والنصر، وبذلك يكون هذا التيار قد مهد الطريق للاتجاه الرومانسي.
ب-تيار الرابطة القلمية
لاحظ الدارس أن شعراء الرابطة القلمية قد وسعوا مفهوم الوجدان، حتى يشمل الحياة والكون، وامتد إلى الذات الالاهية.على أن في شعر هؤلاء تصورا آخر، يتمثل في الهروب من الناس، ومن الواقع والحضارة.هذا الهروب تتبعه الناقد في بعض أشعار أقطاب هذا التيار، كجبران ونعيمة وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة.
وإذا كانت المرحلة التي كتب فيها هؤلاء تميزت بانتشار الوعي القومي، إلا أن تعبيرهم عن الذات ظل مرتبطا بمعاني اليأس والتردد والقناعة والاستسلام،وهذه مضامين لا تناسب المرحلة التاريخية.
ج- جماعة أبولو
اهتم شعراء هذه الجماعة بالموضوعات الشعرية ذات الطابع الذاتي الصرف.وقد تفرد أحمد زكي أبو شادي من بين شعراء هذه الجماعة، بكونه كان يعبر عن جانب من جوانب نفسه، حتى حين ينظم شعرا في الموضوعات المختلفة.هذا ما لا نجده عند شعراء هذا التيار. ذلك بأنهم، حين يستجيبون للأحداث القومية، ينظمون أشعارا يختفي فيها الوازع الذاتي، وبالتالي تصبح ذات طابع تقليدي، إلا أنها لا ترقى إلى ما وصل إليه شوقي وحافظ وغيرهما.وعليه فان ما يعتد به من شعر هذه الجماعة هو الشعر الذاتي، الذي يدور حول المرأة وما يثيره الحديث عنها من معاني الحنين، والشوق، واليأس، والأمل، والارتماء بين أحضان الطبيعة، أو الزهد في الحياة والاستسلام للموت.وقد ظل الشعراء يرددون المعاني نفسها حتى لم يعودوا يضيفون جديدا.
وتجميعا لما سبق عرضه،انتهى الناقد إلى أن أبولو وتيار الرابطة القلمية وجماعة الديوان قد خلفوا شعرا يتناول القضايا القومية والقضايا الاجتماعية بصفة عامة،غير أنه يرى أن ما يمكن أن يعتد به من شعرهم هو الشعر الوجداني الصرف.ويضيف أن إغراق هذا التيار في الانطواء على هموم الذات الفردية، سيؤدي إلى تدفق تيار آخر، أراد للذات أن تنفتح على ما حولها استجابة لمتطلبات المرحلة الجديدة التي أفرزتها كارثة فلسطين.
القسم الثاني: نحو شكل جديد
عمد الناقد إلى إبراز خصائص قصائد التيارات الوجدانية الحديثة ومميزاتها على مستوى الشكل .وهكذا فقد رأى أن لغة القصيدة الوجدانية، أقل صلابة من لغة القصيدة الإحيائية ،وأكثر سهولة ويسرا،بل إن شعراء هذا التيار اقتربوا في بعض قصائدهم من لغة الحديث المألوف.أما استعمالهم الصورة البيانية ،فقد جاء لغاية تعبيرية لا تزيينية،كما كان يفعل شعراءالاحياء الذين كانوا يعتمدون أساسا على الذاكرة في بناء صورهم.
ومن خصائص الشكل الأخرى في القصيدة الوجدانية الحديثة، ذكر الباحث الوحدة العضوية، التي تأتت من رغبة الشاعر الوجداني في ربط العواطف والأحاسيس والأفكار ببعضها.كما ربط الشاعر القافية بالأفكار والعواطف الجزئية.وهكذا راح يغير القافية بما يناسب التبدل الطارئ على الأفكار والعواطف.بل انه انتبه إلى علاقة أخرى تقوم بين العواطف والمعاني الجزئية وبين الأساس الموسيقي للقصيدة، بعيدا عن موضوعها العام.وهكذا نظموا قصائد ذات موضوع واحد، وقواف متعددة، وأوزان مختلفة.بهذا تحقق للقصيدة الوجدانية خاصتان أخريان هما تنوع القوافي واختلاف الأوزان.
ويرى الناقد أن هذه المكاسب تحققت فقط لنخبة من الشعراء الوجدانيين، وفي بعض قصائدهم ومقطوعاتهم المتفرقة.أما السبب في انحصار التطور والتجديد-على مستوى الشكل- في هذا الحيز الضيق من الشعر الوجداني، فيعود في نظر الدارس، إلى النقد المحافظ الذي تصدى لكل المحاولات التي استهدفت اللغة، والأوزان، والقوافي، والصور البيانية.ويرى أن نكبة فلسطين (1947) كانت إيذانا بميلاد حركة هدمت الشكل القديم، وأقامت على أنقاضه شكلا جديدا، أتاح للشاعر قدرا من الحرية، لم يكن متاحا له من قبل في تاريخ العالم العربي.
الفصل الثاني : تجربة الغربة والضياع
تمهيد:
أشار الدارس في البداية إلى وقع نكبة 1948على الأمة العربية الإسلامية، فقد كان بالقوة بحيث دعاها إلى إعادة النظر في كل ما يحيط بها.وفي خضم هذه الأجواء، أجواء المواجهة والشك، لم يبق للوجود العربي التقليدي هيمنته، وعاد الشاعر يتمتع بقدر كبير من الحرية، فانفتح على الأفكار والفلسفات والاتجاهات النقدية الغربية والثقافات العالمية، إلى جانب تعامله مع تراثه العربي الإسلامي وفق نظرة جديدة.وهكذا مزج في فكره ووجدانه، بين روح الثقافة العربية وبين الثقافات الأخرى.ونظر الشاعر الحديث إلى الأشكال والوسائل التعبيرية القديمة فوجدها غير مناسبة لتجربته.من هنا، بدأ البحث عن أشكال جديدة تلائم المضامين الجديدة، إلى أن استقر له شكل جديد يقوم على أساس موسيقي هو شعر التفعيلة الواحدة.
ويرى الدارس أن هذا الشكل بدأ يكتمل، وأسسه أخذت تستقر، خاصة عند بعض الشعراء المحدثين، ذكر منهم السياب والبياني وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي.
اثر ذلك، انتقل المعداوي إلى دراسة المضامين الشعرية الحديثة التي قسمها إلى تجربتين اثنتين: تجربة الغربة والضياع، وتجربة الموت والحياة.
1-تجربة الضياع والغربة: الغربة والضياع والتمزق من المعاني المستفيضة في الشعر العربي الحديث، وقد أرجعها بعض الدارسين إلى عوامل أهمها:
-التأثر بأعمال بعض الشعراء الغربيين؛
-التأثر بأعمال بعض الروائيين والمسرحيين الوجوديين وبعض الناقدين؛
-عامل المعرفة
وإذا كان الدارس لا ينكر هذه العوامل، إلا انه يعتبر أن النكبة كانت أهم عامل في الاتجاه بالتجربة الشعرية الحديثة نحوافاق الضياع والغربة.من هذا المنطلق، راح يدرس تجربة الغربة من خلال محاور أربعة:هي الغربة في الكون، والغربة في المدينة والغربة في الحب، والغربة في الكون.
1-الغربة في الكون
أحس الشاعر بوحدته وتفرده في الكون، فرسم لهذا الكون صورة مثقلة بالظلمة والمرارة والإحساس بالعبث، صورة تتبعها الدارس من خلال بعض المقاطع الشعرية والآراء النقدية.
2-الغربة في المدينة
لاحظ الناقد أن موضوع المدينة دارت حوله كثير من قصائد شعرنا الحديث. والسبب في ذلك، في نظره، يعود إلى أن الشاعر قد وجد في المدينة مجالا خصبا من أجل تحقيق هدفه، ألا وهو تفسير العالم وتغييره،هذا فضلا عن كون المدينة العربية قد فقدت كثيرا من مظاهر الأصالة.
وللتعبير عن هذا الإحساس، سلك الشاعر العربي سبلا مختلفة ذكر الدارس منها ما يلي:
-تصوير المدينة في ثوبها المادي وحقيقتها المفرغة من كل محتوى إنساني؛
-الناس داخل هذه المدينة صامتون يثقلهم الإحساس بالزمن؛
3-الغربة في الحب
مثلما فشل الشاعر في التلاؤم مع جو المدينة ومع من فيها ،فشل أيضا في تحقيق سكينة قلبه عن طريق علاقة الحب بمفهومه الروحي أوالجسدي، وهذا ما وضحه الناقد من خلال مجموعة من المقاطع الشعرية.
4-الغربة في الكلمة
لاحظ الناقد أن غربة الشاعر في الكلمة تأخذ أبعادا مختلفة، فهو غريب حين يمتلك حرية التعبير، وغريب حين يفقد هذه الحرية وغريب بمرارة واقعه، وغريب حين تعفه العبارة، وغريب حين تنفر منه وتجفوه.
ويضيف الناقد أن الغربة في الكلمة أوفي المدينة أو في الحب، ليست سوى وجه واحد من عدة أوجه لغربة الشاعر العربي في واقع ما بعد النكبة،وأن هذه الأوجه المتعددة للغربة تلتقي كلها في عدة محاور، من ذلك محور الموت، وصورة اليبوسة والتحجر، وصورة انحباس الأصوات وسيادة الصمت، وصورة ارتباط التجربة بالزمن على اختلاف في الهدف واستعمال الصور الزمنية.
وقد ارجع الناقد هذا الالتقاء إلى وحدة التجربة في نفس الشاعر، التي جعلت بعض الشعراء يمزج بين لونين من ألوان الغربة في القصيدة الواحدة، بل وأحيانا بين ألوان مختلفة ،على نحو ما فعل عبد الوهاب البياتي في" فارس النحاس".
وبعد أن تناول الدارس هذه القصيدة بالشرح والتحليل، أشار إلى أن المزج بين الألوان المختلفة من الغربة، يكشف عن التمزق النفسي والتمزق الروحي للإنسان العربي، كما يكشف عن تخبطه في تلمس سبيل الخلاص.وأضاف أن البياتي وظف الرمز الجزئي في هذه القصيدة، ومن الشعراء من وظف الرمز العام للتعبير عن تجربته.وقد قادته هذه الإشارة إلى إيراد قصيدة "الدارة السوداء" ليوسف الخال تناولها هي الأخرى بالشرح والتحليل.
وأشار الناقد إلى وجود ارتباط وثيق بين معاني الضياع والغربة، وبين معاني التجدد واليقظة والبعث، وان كان لا يبدو واضحا من أول وهلة.وعنده أن إيقاع التجدد والبعث والأمل بلغ أوجه في الارتفاع والتألق، في الفترة الواقعة بين تأميم القناة وبين واقعة الانفصال بين مصر وسوريا، على حين بدأ إيقاع اليأس يسود بعد هذه الحادثة الأخيرة.وقد تعرض المجاطي للجانب السلبي لهذه التجربة –تجربة الغربة-نشأ من تأثر بعض الشعراء الشباب بالأدب الوجودي،فراحوا يؤكدون رغبتهم في الانصراف عن الفعل ويعكسون مواقفهم العبثية عن الوجود،وما شابه من الإحساسات التي ليست لها أصول راسخة في تربة الواقع العربي.هذا الاتجاه كان له حضور في شعر صلاح عبد الصبور من خلال قصيدته"الظل والصليب"،في بعض اشعارالباسط الصوفي، منها قصيدته"أحزان قديمة"و"تثاؤب".هذه القصيدة اعتبرها الدارس خير ما يمثل هذا الاتجاه بعد قصيدة "الظل والصليب" ،لذا تناولها بالدراسة والتحليل.وقد انتهى إلى أن هذه القصيدة تفشل في إقناعنا بصدق عواطف الشاعر، وبصدق موقفه من الحياة، وانه موقف إعجاب عابر.
ولم يفت الناقد أن يرد على بعض النقاد الذين اتخذوا مواقف متحفظة من تجربة الغربة كلها. فقد رأى في مواقفهم هاته خلطا بين ما هوأصيل من تجربة الغربة ،وبين ما هو غير أصيل. وختم بلفت النظر إلى الدور الذي لعبته تجربة الغربة في تهيئ الشاعر الحديث لتجربة أخرى، هي تجربة الحياة والموت.
الفصل الثالث: تجربة الحياة والموت
أضاف الدارس إلى حديثة عن تجربة الغربة، حديثا أخر عن تجربة الموت والحياة.هذه التجربة التي يراها مشدودة إلى الواقع الذي يتضمن معنى الموت، كما أنها مشدودة إلى المستقبل الذي يحمل معنى التجدد والانبعاث. هذه التجربة لم تتقدمها-في نظر الناقد-إلا محاولة المهجريين في التعبير عن فكرة تناسخ الأرواح.غير أن تجربة المهجريين فقدت صلتها بالواقع الحضاري للأمة بإيثارها الحياة السهلة على معاناة الموت.من هنا يرى المجاطي أن تجربة الموت والحياة في الشعر العربي الحديث، أقرب إلى فكرة الفداء عند المسيحيين منها إلى فكرة التناسخ.والشاعر في ذلك مدعو إلى أن يحيل إحساسنا بالموت إحساسا بالحياة.ولما كان هذا مما لا يقبله العقل، التجأ الشاعر إلى الثقافات الإنسانية ينتقي منها الرموز والأساطير، التي تدور حول معاني التجدد رغبة منه في الوصول إلى إقناعنا وجدانيا.
اثر ذلك، خص الناقد بالدرس أربعة من الشعراء، اعتبرهم خير من يمثل هذه التجربة في الشعر الحديث ،وهم أدو نيس وخليل حاوي والسياب والبياتي،فبين أساليبهم في إدارة الحديث عن الحياة والموت.
وفي الخاتمة التي أعقبت هذه الدراسة ،أكد المجاطي أن الشعر الحديث، قد اضطلع بمهمته سواء على مستوى كشف الواقع أو على مستوى استشراف المستقبل،فضلا عن الروافد الثقافية المختلفة التي أغنت مضمونه، وميزته عن المضامين الشعرية التي سبقته.إلا أن هذا الشعر لم يحدث الأثر المرجو في المتلقين لمجموعة من العوامل، ذكر منها العامل الديني القومي، ومرده إلى الخوف من أن تكون وراء هذا التيار الشعري محاولة لتشويش الشخصية الدينية والقومية،العامل الثقافي، رفض بعض الشعراء والنقاد أي محاولة تجديدية.العامل السياسي، خوف الحكام من المضامين الثورية.
ويبقى أهم هذه العوامل –في نظر الكاتب-هو المتعلق بالوسائل الفنية المستحدثة، التي توسل بها الشعراء للتعبير عن تجاربهم، وهي موضوع الفصل الأخير من هذه الدراسة.
الفصل الرابع: الشكل الجديد
صدر الباحث دراسته بالإشارة إلى أن الشكل في الشعر الحديث شكل ينمو، وأن النمو مرتبط بنمو التجربة وتطورها.ومثل هذا النمو يحتاج إلى مسافة من الزمن، وأن الشكل والمضمون معا يتطوران في التحام تام.كما أشار إلى أن الشكل الشعري الحديث، بعد عشرين سنة من النمو، استطاع أن يتجاوز الشكل القديم.ثم انتقل لإثارة أهم القضايا المتعلقة بتطور العناصر الأساس للشكل الشعري، كاللغة والإيقاع والتصوير البياني،وعلاقة هذا التطور بظاهرة الغموض.
تطور اللغة في الشعر الحديث
بعد أن بين الباحث خطأ محمد النويهي ،لما اعتبر الاقتراب من لغة الكلام الحية ميزة أساسة وواحدة في لغة الشعر الجديد،انتقل لإبراز ما اعتبره ملامح حقيقية للغة الشعر الحديث.وأول قضية وقف عندها هي:
النفس التقليدي في لغة الشعر الحديث
ذلك بأن بعض شعرائنا المحدثين يؤثرون العبارة الفخمة والسبك المتين، حتى حين يعالجون أكثر التجارب حداثة.ويأتي في مقدمة هؤلاء السياب.وقد ساق الناقد مجموعة من الأمثلة التوضيحية تجلي ما ذهب إليه، وتقوم دليلا على أن لغة الشعر الحديث لم تكن كلها قريبة من لغة الحديث الحية.هذه اللغة خير من يمثلها أمل دنقل في ديوانه"البكاء بين يدي زرقاء اليمامة".وبهذا ينتهي الباحث إلى أن استعمال لغة الكلام الحية ليس سوى ملمح واحد من ملامح لغة هذا الشعر، أما الملمح الآخر فهو روح اللغة التقليدية.
البعد عن لغة الحديث اليومية
ابتعد الشاعر الحديث عن لغة الحديث الحية، واستعمل لغة تحمل مفرداتها قيما ودلالات مغايرة لما تحمله في الاستعمال الشائع.
السياق الدرامي للغة الشعر الحديث
الاتجاه بسياق اللغة إلى أعماق النفس، بدل الاتجاه به إلى الخارج، على النحو الذي هو مألوف في سياق اللغة لدى الشاعر القديم، كلام وضحه الناقد بمقطع من قصيدة" معزوفة لدرويش متجول" لمحمد مفتاح الفيتو ري.
التعبير بالصورة في الشعر الحديث
بعد أن ذكر بمميزات الصورة في شعر التيارات الجديدة-الحد من تسلط التراث على الأخيلة،ربط الأخيلة بآفاق التجربة الذاتية-أشارالى أن حركة الشعر الحديث أضافت إلى هموم الذات الفردية هموما أخرى،تتصل بالمجتمع كما تتصل بالتاريخ.
وفي هذا الصدد، ذكر أن الشاعر الحديث وسع الصورة لتتسع لأكبر قدر من الاحتمالات المتصلة بأعماق التجربة.وقد استدل على ذلك بمقطع من شعر السياب،الذي كان يميل أحيانا إلى الحد من اتساع مدلول الصورة.وقصد تسليط الضوء على هذا الجانب،وقف عند قصيدة"المغني والقمر"لعبد الوهاب البياتي.
وفضلا عن ذلك ،يرى الناقد أن بعض الصور تأتي مرتبطة ارتباطا عضويا بتجربة الشاعرفي آفاقها الواسعة،كما هو شأن السياب مع حركة الماء،بالإضافة إلى قيامها على الرمز والأسطورة.بهذا كله ابتعد الشاعر الحديث عن مفهوم الصورة البيانية في البلاغة القديمة، وهذا البعد ساهم في إبعاد شعره عن ذوق عامة الناس.
تطور الأسس الموسيقية للشعر الحديث
تحت عنوان الأسس الموسيقية للشعر الجديد، عرض الباحث لأهم التطورات التي تحققت للقصيدة العربية في الإطار الموسيقي الجديد.من ذلك تفتيت الوحدة الموسيقية القديمة، التي تتمثل في البيت الشعري، وأصبح ما يقابل البيت سطرا، يتعلق طوله وقصره بما يتضمن من نسق شعوري وفكري.وهذا النسق يتحكم أيضا في البناء العام للقصيدة.
وتبعا لما تقدم،لاحظ الباحث أن عدد البحور الشعرية المستخدمة في الشعر العربي الحديث،أقل كثيرا مما هو معروف في العروض الخليلي ،ومرد ذلك إلى أن الشاعر الحديث قد أدرك أن في وسعه أن يستخرج من البحر الواحد أكثر من بناء موسيقي واحد.وأضاف بأن من الشعراء من انصرف إلى الأبحر المختلطة، مسجلا بأن الطاقات الموسيقية لهذه البحور لم تستغل بالشكل المطلوب، إلا في حالات ناذرة.وارجع ذلك إلى أربعة أسباب هي:
1-مسألة الزحاف
بالزحاف أمكن للشاعر أن يكسر حدة التفعيلة،ويمنح إيقاعها مزيدا من التنوع والتلوين،دون أن يلجأ إلى البحور ذات التفعيلات المختلطة.(البحور المركبة)
2-تنويع الأضرب
لم يقم الشاعر الحديث وزنا لهذا الذي عد عيبا من عيوب القافية، وهو تنويع الأضرب بالبحر الواحد،فنوع إيقاع التفعيلة بما هو مقبول عروضيا من مشتقات التفعيلة نفسها.واستشهد على ذلك بأبيات من قصيدة "الخروج" لصلاح عبد الصبور،بل إن الشاعر تجاوز ذلك إلى استخدام مستفعلان في ضرب الرجز،وهو ما لم يقل به العروضيون،وهذا رغبة منه في تنويع الإيقاع في البحور الصافية.أكثر من ذلك، أدمج الشاعر الحديث بحرين متشابهين في بحر واحد.
3- فاعل في حشو الخبب
أصبحت فاعلن فاعل في حشو بعض أبيات الشعر الحديث.وقد حدث هذا التطور بسبب رغبة الشاعر الخفية في كسر حدة التفعيلة في البحور الصافية،وتنويع إيقاعها بالقدر الذي يغنيه عن الرجوع إلى البحور المختلطة.
4- مسألة التدوير
أشار الباحث إلى أن حركة المشاعر والأفكار والأخيلة، قد تأخذ شكل دفقة تتجاوز في اندفاعها حدود الشطر الشعري والبيت الشعري،وأن ذلك قد أدى إلى نتيجتين: أولاهما، التعبير عن الدفقة دون الوقوع في التدوير،ولكن باللجوء إلى تفعيلة خماسية وتساعية.ثانيهما، الوقوع في التدوير الذي نقل من الشطر إلى البيت (الشطر الثاني داخل الجملة الموسيقية).
نظام القافية في الشعر الحديث
تناول في هذا الجانب الطرائق التي تعامل بها الناقد مع نظام القافية. وفي هذا الشأن، سجل ثلاث ملاحظات: أولاها أن الشاعر الحديث تعامل مع القافية بصفتها نظاما إيقاعيا، يتكون من عدة أحرف على النحو المعروف في علم القافية، مع الحد من بروز إيقاع حرف الروي.وقد مثل لذلك بأبيات ثلاثة ختم بتا فواز عيد قصيدته"الكلدان في المنفى".
الملاحظة الثانية تتعلق باختلاف الأضرب في أبيات القصيدة، مع وجود نظام مرن يربط قوافي الأضرب المتنوعة.وهذه المرونة هي التي تمنح الشاعر حرية توحيد رنة القافية في الأبيات المتجاورة، أوفي الأبيات المتراوحة، أو أن يجاور ويراوح بالشكل الذي ينسجم مع الدفقة الشعورية، التي تقف خلف عملية الإبداع الشعري.وقد مثل لذلك بأسطر من قصيدة"أحلام الفارس القديم"لصلاح عبد الصبور.
أما الملاحظة الثالثة، فتتعلق بعلاقة نظام القافية بالجملة الشعرية.وقد حدد الباحث هذه العلاقة في نقطتين:
النقطة الثانية تخص الجمل الموسيقية المسرفة الطول، التي يبث في صلبها الشاعر بعض الوقفات، التي تضيف إلى موسيقى الوزن موسيقى أخرى يتيحها الصمت الذي يحدثه توقفنا بين الحين والأخر.وقد يشار إلى أماكن الوقف بعلامات الترقيم.
والنقطة الثانية، تخص الجمل الموسيقية المتوسطة الطول،وفيها راح الشعراء يعوضون عن القافية المتواترة والمتراوحة بقافية ذات نبر بارز.
خاتمة:
خلص الباحث إلى أن الحداثة أهم العوامل التي أدت إلى نعت الشعر الجديد بالغموض،والى ذلك أضاف عاملا أخر، أشار إليه الناقد الأمريكي ريتشاردز، وهو أن الإبهام من طبيعة الشعر الجيد
هل أعجبك النص الأدبي نعم أم لا رأيك يحترم!
0 التعليقات:
إرسال تعليق