هل كانت مصادفة
يحلو دائما للمفكر المادي أن يقول أن الإنسان خلق مصادفة.. من أخلاط المواد المتخمرة في طين المستنقعات منذ خمسة آلاف مليون سنة حدث بالمصادفة تفاعل أدى إلى نشأة الخلية.. و هو لا يقول لنا كيف حدث هذا التفاعل، و لا كيف حولت المصادفة الطين إلى خلية حية.. و إنما هو يقول إن هذا الأمر لابد قد حدث، و إننا لا يجب أن ندهش، فالخمسة آلاف مليون سنة زمن طويل جدا.. و لو أن قردا جلس يدق على آلة كاتبة و يلهو بأصابعه مدى خمسة آلاف مليون سنة من الزمان فإنه لابد سيحدث بالمصادفة أن يكتب بيتا لشكسبير.
حسنا.. صدقنا و آمنا أنه بمصادفة فردية لا إحكام فيها و لا تدبير تحول الطين إلى خلية حية.. و ماذا بعد؟..
إن المفكر المادي يعود فيهرش مخه ليقول إنه بمصادفة أخرى تطور الكائن الوحيد الخلية إلى كائن متعدد الخلايا.
ثم يعود فيهرش رأسه ليقول إنه بخبطة عشوائية ثالثة تفرع طريق الحياة إلى سكتين.. سكة الحياة النباتية التي اختارت النمو الثابت في الأرض.. و سكة الحياة الحيوانية التي اختارت الحركة و راحت تقتحم البر و البحر و الجو بنسلها المغامر الطموح.
ثم يعود فيهرش قفاه و يخرج بمجموعة مصادفات أخرى ليحول بها الكلاب إلى حمير، إلى خيول، إلى زراف إلى نسانيس، إلى قرود. و هي مصادفات يخجل مؤلف سينمائي درجة ثالثة يكتب و هو مخمور فيلما لبنانيا ساقطا – أن يكتبها في روايته.
و لكن المفكر المادي الذي لا يؤمن بالخجل، و الذي يعتقد أنه حفيد بالمصادفة لجد حمار يعود فيخلق سيلا من المصادفات يحول بها الشمبانزي إلى غوريلا، و الغوريلا إلى إنسان.. ثم يفرك يديه و يتنفس الصعداء فقد انتهى من المشكلة و أثبت أن الإنسان خلق بالمصادفة و يموت بالمصادفة.
و لا أفهم لماذا لا يتركنا المفكرون الماديون نعيش اعتباطا و على مزاجنا مادمنا قد جئنا بالمصادفة و نموت بالمصادفة و مادامت الحياة من بدئها إلى نهايتها خبط عشواء في خبط عشواء.. و ليس بعدها إلا التراب.
لماذ يثيرون هذه الحروب الدموية و يضربون الناس بعضهم ببعض في معركة مذاهب لا نهاية لها؟
لماذا هذا العنف و القهر و الجبر و السحق؟
و من أجل ماذا و لا حق هناك.. إنما هي مهزلة من المصادفات جاءت بنا إلى الدنيا بدون حكمة ثم هي تقضي علينا بدون معنى.. ثم يكون الصمت و التراب و العدم بلا بعث و بلا حساب.. هكذا يقولون.. و هكذا يعتقدون.. فلماذا هذا الجنون و لماذا قتل الناس و ذبح الناس.. إذا كانت هكذا عقيدتهم؟
و لن أناقش حكاية المصادفات الساذجة، فهي لا تحتاج إلى مناقشة.
و يكفي أن ننظر إلى جناح فراش بنسجه و ألوانه و نقوشه لنعرف أننا أمام فنان مبدع و ريشة ملهمة لم تترك بقعة واحدة و لا خطا واحد للمصادفة.. و إنما هي سيمفونية رائعة من الخطوط و الألوان.
بعوضة تافهة تضع بيضها على الماء فنكتشف حينما ننظر أن كل بيضة لها كيسان للطفو..
من علم البعوضة قوانين أرشميدس لتصنع هذه الأكياس الهوائية لتعويم بيضها على الماء؟
أشجار الصحارى و هي تنثر بذورها.. فإذا لكل بذرة أجنحة..
من علم الأشجار قوانين الحمل الهوائي؟
و كيف أدركت تلك الأشجار التي بلا عقل أن على بذورها أن تقطع مئات و آلاف الأميال في الصحارى بحثا عن ماء فزودتها بهذه الأجنحة؟
من علم الكتكوت أن يدق بمنقاره على أضعف مكان في البيضة ليخرج؟
من علم الحشرات فنون التنكر فراحت تتلون بألوان بيئاتها لتختفي عن الأنظار؟
من علم النحل قوانين العمارة لتبني هذه البيوت السداسية الدقيقة الجميلة من الشمع بدون آلات حاسبة و بدون مسطرة؟
من يهدي الطيور في رحلة الهجرة السنوية من نصف الكرة الأرضية إلى نصفها الآخر بدون بوصلة و بدون رادار.. عائدة إلى أوكارها؟
و مثلها الأسماك التي تهاجر عبر المحيطات و البحار لتضع بيضها.
لماذا لا نعترف ببساطة و بدون مكابرة أن هناك خالقا. و أنه هو الذي هدى رحلة التطور من الخلية إلى الإنسان. و أنه خلق كل شيء لحكمة و خلق الإنسان لهدف!
لماذا لا نعود إلى البداهة و الفطرة السوية السليمة التي ترى الإبداع في كل شيء من الذرة إلى ورق الشجر إلى جناح الفراش، إلى الشموس و المجرات في السماء.. فنصل إلى النتيجة البسيطة.. إن مثل هذا الإبداع و مثل هذا الخلق لا يمكن أن يكون سدى.. و الإنسان لا يمكن أن يخلق عبثا ليموت عبثا.. و إنما للقصة بقية.. و للموت ما بعده..
أم أن الجد الحمار قد خلف آثاره التي لا علاج لها في أحفاده المفكرين الماديين الذين يقتتلون على الهباء و يدورون في الخواء.
عالم الغيب
أنت تصادف اليوم نوعا من الناس تجد الواحد منهم يتأبط كتابا ضخما بالإنجليزية أو الفرنسية، و يبرز من فمه سيجارا ضخما ينفث الدخان كمدخنة مصنع في لانكشير، فإذا رفعت يدك بالتحية رد عليك باللاتينية و بلسان معووج يتكلم برطانة أوروبية.. و مع الدخان المتصاعد و الفتات المتناثر من عدة لغات يقول لك في نبرة كلها انبعاج و خيلاء:
- هل قرأت ما يقوله جوستاف لوفافر في الدجوماطيقية و الفكر الاستطايقي و التدهور الرومانطيقي و الانحرافات السيكوباتية في المجتمعات الثيوقراطية.. في ملحق مجلة "الميتافيزيقا".. إنه مقال رائع ( و يقلب شفتيه).
مالنا نقف هكذا وسط الطريق.. دعني أدعوك على كأس في الهورس شو.. تعال.. سيكون حديثا ممتعا على أكواب البيرة.
فإذا اعتذرت له بأنك صائم حملق في دهشة كأنه يستمع إلى كلام ديناصور منقرض.. و فغر فاه تماما ثم قهقه، بل انفجر ضاحكا و كأنما ظفر بمعتوه هارب لتوه من مستشفى المجاذيب:
- تقول إنك صائم؟
و عاد يقهقه هذه المرة في إشفاق:
- و هل هناك من يصوم هذه الأيام.. هل تعتقد حقا في هذه ال.. ثم أشاح بيده استخفافا، فالمسألة لا تستحق عنده أن يبحث لها عن اسم.
و هو يقصد طبعا هذه الأديان.. و الخرافات.. و الأساطير.
- هل تصدق حقا أنك سوف تموت ثم تبعث و تصحو من قبرك و تحاسب.. و أن هناك إلها؟
ثم راح يتلفت حوله متسائلا:
- أين هو؟
يقصد أين الله. و كأنه يبحث عن سائق تاكسي.
- أتصدق هذه الغيبيات؟ أما زال هناك من يصدق هذه الغيبيات في عصر النور و العلم؟ أفق يا رجل من هذه الدروشة.. تعال.. لتكن الدعوة على كأس ويسكي لا بيرة، ولتكن معها شريحة لحم خنزير رائعة.
و يحمل عليك حملة شعواء بجميع اللغات لدرجة تفقدك التوازن و ربما الثقة بالنفس، فتعود لتتعلل في خجل بأنك ممنوع من الأكل و الشرب بسبب التهابات في المعدة. و يسوق هو في فلسفته:
- يا أخي نحن في عصر العلم، و لا يصح أن نستسلم لهذه الغيبيات، و لا يصح أن نؤمن بشيء إلا إذا أمسكناه بحواسنا الخمس، و رأيناه بالميكروسكوب، و شاهدناه بالتلسكوب، و رصدناه بالرادار، و التقطناه بالراديو. لا يصح الإيمان بغيب هذا أمر انتهى.
الغيب أمره انتهى، و هو الآن شغلة السذج.. هي كلمات نسمعها الآن عادة من هؤلاء المثقفين.
و لمثل هؤلاء المثقفين من أصحاب السيجار و الياقات العالية و الرطانة الأوروبية أقول في هدوء:
- بل هذا العصر هو عصر الغيب.. و العلم ذاته هو اعتراف بليغ بالغيب. و إلا فليقل لي واحد من هؤلاء العلماء.. ما هي الكهرباء؟ إننا نتكلم عن الكهرباء و لا نعرف عنها إلا آثارها من حرارة و ضوء و مغناطيسية و حركة.. أما الكهرباء ذاتها فهي غيب. نتكلم عن الإلكترون و نقيم صناعات إلكترونية و لا نعرف ما هو الإلكترون.. فهو غيب و نطلق الموجة اللاسلكية و نستقبلها و لا نعلم عن كنهها شيئا. و هي بالنسبة لنا غيب. بل إن الجاذبية التي تمسك بالأرض و الشمس و الكواكب في أفلاكها- و هي أولى البداهات – هي ذروة الغيب.
و العلم لا يعرف إلا كميات و مقادير و علاقات و لكنه لا يعرف كنه و لا ماهية أي شيء.
أنت تعرف طولك و عرضك و وزنك و مواصفاتك.. لكن ذاتك.. نفسك.. روحك.. لا تعرف عنها شيئا. إنها غيب.. و مع ذلك هي أكثر واقعية من أي واقع.
و إذا كان الواحد منا لا يعرف ذاته فكيف يدعي المعرفة بذات الله؟ و من باب أولى كيف ينفيها؟
و حينما يقول المفكر المادي. في البدء كانت المادة.. في البدء الأول قبل الإنسان و الحيوان و النبات.. ألا يكون كلامه هو الجرأة بعينها على منطقة زمنية هي الغيب المطلق.
و حينما يقول: نضحي بالجيل الموجود في سبيل جيل لم يولد بعد.. ألا يكون معنى كلامه التضحية بالواقع في سبيل الغيب؟
صدقوني نحن في عصر الغيب بل للأسف نحن في عصر الزنى بالغيب، و الدعارة بالعلم على يد أصحاب السيجار و الياقات العالية، و الرطانة الأوروبية.
السلطان الحقيقي
قل لي فيم تفكر أقل لك من أنت.
هل أنت مشغول بجمع المال و امتلاك العقارات و تكديس الأسهم و السندات؟ أم مشغول بالتسلق على المناصب و جمع السلطات و التحرك في موكب من الخدم و الحشم و السكرتيرات؟ أم أن كل همك الحريم و موائد المتع و لذات الحواس و كل غايتك أن تكون لك القوة و السطوة و الغنى و المسرات..
إذا كان هذا همك فأنت مملوك و عبد.
مملوك لأطماعك و شهواتك، و عبد لرغباتك التي لا شبع لها و لا نهاية.
فالمعنى الوحيد للسيادة هو أن تكون سيدا على نفسك أولا قبل أن تحاول أن تسود غيرك. أن تكون ملكا على مملكة نفسك. أن تتحرر من أغلال طمعك و تقبض على زمام شهوتك.
و القابض على زمام شهوته، المتحرر من طمعه و نزواته و أهوائه لا يكون خياله مستعمرة يحتلها الحريم و الكأس و الطاس، و الفدادين و الأطيان و العمارات، و المناصب و السكرتيرات.
الإنسان الحقيقي لا يفكر في الدنيا التي يرتمي عليها طغمة الناس.
و هو لا يمكن أن يصبح سيدا بأن يكون مملوكا، و لا يبلغ سيادة عن طريق عبودية. و لا ينحني كما ينحني الدهماء و يسيل لعابه أمام لقمة أو ساق عريان أو منصب شاغر. فهذه سكة النازل لا سكة الطالع.
و هؤلاء سكان البدروم حتى و لو كانت أسماؤهم بشوات و بكوات، و حتى و لو كانت ألقابهم، أصحاب العزة و السعادة.
فالعزة الحقيقية هي عزة النفس عن التدني و الطلب.
و ممكن أن تكون رجلا بسيطا، لا بك، و لا باشا، و لا صاحب شأن، و لكن مع ذلك سيدا حقيقيا، فيك عزة الملوك و جلال السلاطين، لأنك استطعت أن تسود مملكة نفسك.
و ساعتها سوف يعطيك الله السلطان على الناس. و يمنحك صولجان المحبة على كل القلوب.
انظر إلى غاندي العريان.. البسيط.. كم بلغ سلطانه؟
كان يهدد بالصوم فيجتمع مجلس العموم البريطاني من الخوف و كأن قنبلة زمنية ستقع على لندن. و كان يجمع أربعمائة مليون هندي على كلمة يقولها. و كأنها السحر.
هذا هو السلطان الحقيقي.
هذا هو الملك الحقيقي الذي لا يزول.
الحريم و القصور و الكنوز و الثروات و العمارات مصيرها إلى زوال.
لن تأخذها معك إلى تابوتك. سوف تنتقل إلى الورثة.. ثم إلى ورثة آخرين، ثم تصبح خرائب مع الزمن.
أما محبة الملايين فسوف تصاحبك في تابوتك و تظل علما على اسمك مدى الدهر. كما تفوح الذكرى عطرة تضوع بالشذا كلما جاء اسم غاندي على الألسن.
الغنى الحقيقي أن تستغني.
و الملكية الحقيقية ألا يملكك أحد، و ألا تستولي عليك رغبة، و ألا تسوقك نزوة.
و السلطنة الحقيقية أن تكسب قيراط محبة في دولة القلوب كل يوم.
تذكر أن الذين يملكون الأرض تملكهم. و الذين يملكون الملايين، تسخرهم الملايين، ثم تجعل منهم عبيدا لتكثيرها، ثم تقتلهم بالضغط و الذبحة و القلق. ثم لا يأخذون معهم مليما.
صدقني هؤلاء هم الفقراء حقا.
بعض التواضع
نحن في عصر العلم ما في ذلك شك. صواريخ.. طائرات.. أقمار صناعية.. أدمغة إليكترونية..
و نحن في عصر الجهل ما في ذلك شك. فكل هذه الوسائل و الاختراعات العلمية نستخدمها في قتل أنفسنا و في التجسس على أنفسنا.
و الذي لا يقتل يقول في غرور. أنا الذي سوف أسبق إلى القمر.. أنا شعب الله المختار.. أنا على حق و الآخر على باطل.. أنا أبيض.. أنا جنس آري.. أنا جنس سامي..
و بين الغرور و الاستعلاء و الكبرياء و العدوان يضيع العلم، و يفتضح العلم، فإذا هو تفاخر الجهلاء بما يصنعون من لعب أطفال.
و أجهل الجهل أن نجهل أمرا جوهريا واضحا كالنهار.
أن يجهل العالم العظيم و المخترع العبقري أنه مخلوق.. و أنه يعيش على سلفة.. على قرض.. السنوات القليلة التي يعيشها هي قرض و سلفة بأجل محدود.. و أنه لا يملك هذا القرض و لا يستطيع أن يمد في أجله.
كل (( نبضة قلب))، و كل خفقة أنفاس، و كل خاطر، و كل فكرة، و كل خطوة، هي قرض.. سلفة.. هي قرش ينفق من الرصيد.
و هو رصيد لا نملكه و لم نبذل فيه جهدا.. و إنما هو عطاء مطلق أعطي لنا منذ لحظة الميلاد.
المخترع لا يخترع و إنما يجيئه الخاطر كما ينزل ندى الفجر على الزهر.
و الشاعر لا يؤلف من عدم، و إنما يهبط عليه إلهام الشعر فيورق عقله كما يورق الشجر في الربيع.
فهل يمتلك الشجر أزهاره أو أنها هبة الربيع؟
و العلم ذاته هبة.
الكهرباء موجودة منذ الأزل من قبل أن تكتشف بملايين السنين، و هي التي كانت تضيء السماء بالبروق و الصواعق.
نحن لم نخترع الكهرباء و لم نأت بها، فهي موجودة. و كذلك إشعاع الراديو و طاقة الذرة و مغناطيسية الحديد.
كل هذه كنوز موجودة تحت أيدينا..
و هي بعض الهبات التي وهبناها دون أن نطلبها.
نحن العلماء لا ندرك هذا و إنما نقول: اخترعنا. ابتكرنا، صنعنا، ألفنا، صنفنا.
ثم لا ندرك ما هو أخطر و أكثر وضوحا و بداهة.. إن العمر الذي نعيشه هو أيضا هبة لم نطلبها و لم نجتهد فيها.
الجميلة لم تجتهد لتولد جميلة.
و القوي لم يجتهد ليولد قويا.
و الحاد البصر لم يجتهد ليولد حاد البصر.
و نحن لا نقوم بصيانة هذا الشيء المعقد الملغز المعجز الذي اسمه الجسد الحي.. و إنما هو الذي يقوم بصيانة نفسه بنفسه بأساليب محيرة.
نحن ننفق من شيك لا نملكه.. و مع ذلك نتبجح طول الوقت.. و نقول.. نحن اخترعنا نحن صنعنا.. نحن عباقرة.. نحن عظماء.. نحن على حق و الآخرون على خطأ.. نحن بيض و هم حيوانات.. نحن جنس سامي و هم جنس منحط، ثم نقتتل على ثروات لا نملكها و لا فضل لنا فيها جميعا.
و لا فضل لنا حتى في تكويننا الجسماني.
نحن مجرد مخلوقات تولد و تموت و تعيش على هبة محدودة من الخالق الذي أوجدها، و لو كنا نملك أنفسنا حقيقة لما كان هناك موت.
و لكن الموت هو الذي يفضح القصة.
هو الذي يكشف لنا أن ما كنا نملكه لم نكن نملكه.
الشيخوخة هي التي تفضح جمال الجميلة فإذا بجمالها هبة زائرة لا حقيقة باقية.
و لكننا نحن العلماء نجهل هذه الحقيقة الأولية الشاخصة ملء العين كشمس النهار.
و لو أدركنا هذه الحقيقة البسيطة لانتهت الحروب و حل السلام و ملأت المحبة القلوب و أشرق التواضع ليجمع العالم في أسرة واحدة.
لو أدركنا هذه الحقيقة لالتففتنا إلتفاتة شكر إلى الوهاب الذي وهب.
هل أخطئ إذا اعتبرت هذا العصر أظلم عصور الجاهلية؟!
من أين تنبع السعادة
منذ ألف سنة كان السفر إلى اليمن على الأقدام يحتاج إلى أعوام. يحمل المسافر خيمته و زاده و زواده و زكائب التمر و البلح و الخبز المكسر و يتوكل على الله.
و بين الفيافي و الجبال و الوهاد و الأحراش يطل عليه الموت من أنياب ذئب جوعان، أو قاطع طريق متربص، أو حر لافح يقصم الظهر، أو برد قارص يثلج العظام.. فإذا وصل سالما فهو قد ولد من جديد، و هي الفرحة التي لا تدانيها فرحة.
و المليونير على أيامها لم يكن يمتاز على الصعلوك إلا في الخيول المطهمة.
كان الفرس هو السيارة التي تختصر الأعوام في شهور، و كانت هذه هي سرعة البرق زمان.
و عرفنا السفن الشراعية لننتقل من أهوال البر إلى أهوال البحر.
يقلع المسافر فيمسك بأنفاسه و قد أدرك أنه أسلم نفسه إلى غول لا يعرف الرحمة. فإذا وصل إلى بر الأمان دقت له الطبول و المزامير، و استقبلته الأحضان، و سجد لله شكرا من فرحة الوصول.
أما اليوم فنحن نقطع المسافة بين القاهرة و أسوان في ساعات بالقطار، و نشعر طول الوقت بالملل و الضجر و البطء، و ننظر إلى ساعاتنا، حتى إذا وصلنا سالمين بدأنا نسب و نلعن لأننا تأخرنا نصف ساعة.
و نركب الطائرة النفاثة لنصل إلى بيروت في دقائق، و نشكو مر الشكوى لأن الضباب و العواصف أخرت وصولنا عشر دقائق.
و حينما نسافر غدا بالصواريخ إلى المريخ سوف نكون أكثر مللا و تعجلا و سنقول: ما هذه الصواريخ اللكع؟ ألا يعرفون في مصلحة الصواريخ قيمة الوقت؟
و سوف تتضاعف قيمة الوقت بالفعل.
ستكون الساعة كافية للدوران حول العالم، و سيكون الشهر مهلة عظيمة لجولة في المجموعة الشمسية.
و سوف تزداد الإمكانيات، و لكن سوف تتضاءل السعادة.
و كلما ازدادت الإمكانيات ازداد الطمع.
و كلما ازدادت السرعة ازدادت العجلة.
و كلما ازداد الترف ازدادت الشكوى.
تماما مثل حكاية الغني الذي يزداد طمعا كلما ازداد ثراء.
و هذا شأن المكاسب المادية، كلما ازدادت ازداد الافتقار إليها و إلى المزيد منها، و بالتالي ازدادت التعاسة.
لأن السعادة موطنها القلب و ليس الجيب، و لا عبرة فيها بازدياد الإمكانيات المادية.
السعادة تنبع من الضمير. و من علاقة الإنسان بنفسه و علاقته بالله و هي في أصلها شعور ديني و ليست شعورا ماديا.
و هي تنبع من إحساس الإنسان بأنه ليس وحده و أن الله معه، و أن العناية تحوطه و الإلهام الخير يسعفه، و أنه يقوم بكل واجباته.
و لهذا يمكن أن ينتحر مليونير يملك باخرة و طائرة و عدة ملايين من الدولارات في حين تجد الراهب الذي يعيش على الكفاف يضيء وجهه بسكينة داخلية لا حد لها، و يسارع إلى نجدة الآخرين في محبة و سعادة، لأنه يؤمن بأن للحياة معنى و حكمة، و أنها لم تخلق عبثا، و إنما خلقها العادل الرحيم.
مخير أم مسير
يسألني القراء دائما في استغراب.. كيف وصلت إلى قرارك الذي تردده في كل كتبك و مقالاتك بأن الإنسان مخير لا مسير.
كيف يكون الإنسان مخيرا و هو محكوم عليه بالميلاد و الموت و الاسم و الأسرة و البيئة، و لا حول له و لا قوة، و لا اختيار في هذه الأشياء التي تشكل له شخصيته و تصرفاته.
و القراء يقعون في خطأ أولي منذ البداية حينما يقيمون علاقة حتمية بين البيئة و السلوك.. و بين الأسرة و تقاليدها و بين الشخصية، و هو تفكير خاطئ، فلا توجد حتمية في الأمور الإنسانية.. و إنما يوجد – على الأكثر – ترجيح و احتمال و هذا هو الفرق بين الإنسان و الجماد و هذا هو الفرق بين الإنسان و برادة الحديد.
برادة الحديد تطاوع خطوط المجال المغناطيسي في حتمية و جبرية و تراص في خطوط المجال حتما حينما نرشها حول المغناطيس.
أما الإنسان فإن علاقته بظروفه لا تزيد على كونها احتمالا أو ترجيحا.
الابن الذي ينشأ في عائلة محافظة محتمل أن ينشأ محافظا هو الآخر مجرد احتمال.. و كثيرا ما يحدث العكس، فنرى هذا الابن و قد انقلب متمردا ثائرا على التقاليد، محطما لها..
و هذا هو الفرق بين المسائل الآلية الميكانيكية و المسائل الإنسانية.. و نفس الكلام يقال في البيئة..
البيئة تشكل الإنسان.. و لكن الإنسان أيضا يشكل البيئة.
و نظرة سريعة في المجتمع العصري حولنا سوف ترينا كيف أخضع الإنسان مشاكل الحر و البرد و المسافات بعقله و علمه و استطاع أن يسودها فهو يكيف الهواء بالمكيفات، و هو يهزم المسافات بالمواصلات السريعة و البرق و الهاتف.
الإنسان ليس كتلة هلامية سلبية تشكلها حتميات البيئة.. و لكنه إرادة صلبة في ذاتها لها حريتها في توجيه الأحداث.
و هذا هو الإنسان الذي ولد طفلا تحكمه أسرته و بيئته و مقتضيات اسمه و تقاليده.. ها هو ذا يهاجر و يغير اسمه و بيئته و أسرته و ينتقل إلى مجتمع جديد فيصنع انقلابا في هذا المجتمع الجديد و يغيره من أساسه.
و ها هو ذا يموت فيترك كتابا.. فإذا بالكتاب يغير التاريخ.
و صحيح أن الإنسان قليل الحيلة في الطريقة التي يولد بها و في الطريقة التي يموت بها.. و لكنه بين ميلاده و موته يصنع حضارة.. أعطاه الله القدرة على أن يبني و يهدم و يحرر و يتحرر و يفكر و يبتكر و يخترع و يفجر و يعمر و يدمر.. و سلمه مقاليد الخير و الشر و حرية الاختيار.
و حواجز البيئة و ضغوط الظروف لا تقوم دليلا على عدم الحرية بل هي على العكس دليل على وجود هذه الحرية.. فلا معنى للحرية في عالم بلا عقبات.. و في مثل هذا العالم الذي بلا عقبات لا يسمى الإنسان حرا، إذ لا توجد لرغباته مقاومات يشعر بحريته من خلال التغلب عليها.
و الحرية لا تعبر عن نفسها إلا من خلال العقبات التي تتغلب عليها.. فهي تكشف عن نفسها بصورة جدلية من خلال الفعل و مقاومة الفعل.
و لهذا كانت الضغوط و العوائق و العقبات من أدلة الحرية و ليس العكس.
و الفيلسوف الغزالي يحل المشكلة بأن يقول إن الله حر مخير مطلق التخيير و المادة الجامدة مسيرة منتهى التسيير.. و الإنسان في منزلة بين المنزلتين.. أي أنه مخير مسير في ذات الوقت.. مخير بمقدار مسير بمقدار.
و توضيحا لكلامه أقول إن الإنسان حر مطلق الحرية في منطقة ضميره.. في منطقة السريرة و النية.. فأنت تستطيع أن تجبر خادمك على أن يهتف باسمك أو يقبل يدك، و لكنك لا تستطيع أن تجبره على أن يحبك.. فمنطقة الحب و الكراهية و هي منطقة السريرة منطقة حرة حررها الله من كل القيود و رفع عنها الحصار و وضع جنده خارجها..
لا يدخل الشيطان قلبك إلا إذا دعوته أنت و فتحت له الباب.
و قد أراد الله هذه النية حرة لأنها مناط المسئولية و المحاسبة.
أما منطقة الفعل فهي المنطقة التي يتم فيها التدخل الإلهي عن طريق الظروف و الأسباب و الملابسات ليجعل الله أمرا ما ميسرا أو معسرا حسب نية صاحبه.
(( فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) )) (الليل)
يمهد الله أسباب الشر للأشرار.. و يمهد أسباب الخير للأخيار.. ليخرج كل منا ما يكتمه و يفصح عن سريرته و نيته و يتلبس بفعله.
و بهذا لا يكون التسيير الإلهي منافيا أو مناقضا للتخيير، فالله يستدرج الإنسان بالأسباب حتى يخرج ما يكتمه و يفصح عن نيته و دخيلته و يتلبس باختياره.
الله بإرادته يفضح إرادتنا و اختيارنا و يكشفنا أمام أنفسنا.
و من ثم يكون الإنسان في كتاب الله مخيرا مسيرا في ذات الوقت.. دون تناقض.. فالله يريد لنا و يقدر لنا حتى نكتب على أنفسنا ما نريده لأنفسنا و ما نخفيه في قلوبنا و ما نختاره في أعمق الأعماق دون جبر أو إكراه، و إنما استدراجا من خلال الأسباب و الظروف و الملابسات.
و في إمكان الواحد منا أن يبلغ ذروة الحرية بأن تكون إرادته هي إرادة الله و اختياره هو اختيار الله و عمله هو أمر الله و شريعته.. بأن يكون العبد الرباني الذي حياته هي الناموس الإلهي، فيعبد الله حبا و اختيارا لا تكليفا.. إنه الحب الذي قال عنه المسيح:
(( لو كان في قلبك ذرة ايمان و قلت للجبل انتقل من مكانك لانتقل من مكانه)).
كما يحدث أن نعطي من ذات نفوسنا لمن نحب كذلك يعطي الله من ذاته لأحبابه، فيحقق لهم ما يشاءون فيكونون الأحرار حقا.
قطار اللذة
منذ ألف سنة كان أقصى ما يطمح فيه إنسان قطعة أرض و بضعة رؤوس من الماشية.. كان هذا هو الثري الأمثل في ذلك العصر.. و كان أقصى ما يحلم به ذلك الثري هي عربة مطهمة يجرها حصان ليدخل بها مجتمع الوجهاء و أهل الشياكة.
و اليوم نقول عن من يملك العربة و الحصان إنه (( عربجي)) و هو في اعتبارنا من الناس الدون.
أما أهل الشياكة و الوجاهة فقد استبدلوا بالأرض العمارات.. ثم استبدلوا بالعمارات الشركات.. ثم استبدلوا بالشركات مجرد دفتر سندات أو دفتر شيكات بحجم الجيب.. مجرد رأس مال يتوالد من تلقاء ذاته بالإسهام في أي مشروع.
و انتهى إسطبل المواشي ليحل محله كراج عربات مرسيدس.. ثم انتهى أمر الكراج و تركه الأغنياء للسوقة و الناس الدون.. و صار الواحد منهم يمتلك طائرة خاصة أو مرسى لليخوت أو باخرة.
و غدا تصبح الطائرات من أملاك الفقراء و يظهر الأغنياء الوجهاء الذين يملكون الصواريخ و السفن الفضائية و الأقمار الصناعية، و تصبح رحلة (( الويك إند)) عشاء ساهرا في المريخ.
الزمن استدار و انتقل الناس من حال إلى حال بسرعة غريبة، و أحلام زمان أصبحت الآن متاحة للكل.
و الفلفل و الحبهان الذي كانت تحمله السفن من الهند عبر رأس الرجاء الصالح في رحلات مهلكة محفوفة بالأخطار ليوزن بالذهب و يوضع في الخزائن مع المجوهرات و لا يظهر إلا على موائد أصحاب الملايين.. و مثله مناديل الحرير الهندي التي كنا نقرأ عنها في بيوت اللوردات في روايات زولا و بلزاك.. كل هذا نزل ليصبح في متناول السوقة.
و الفلفل و الحبان الآن عطارة الفقراء.
و الحرير طرده النيلون و الداكرون و التريلين من السوق فهبط إلى نصف ليرة للمنديل، و أصبح زينة متاحة للخدم و عاملات (( المحلات)). أي إنسان من مستويات الدخل البسيطة يستطيع الآن أن يحصل على كثير من وسائل الترف التي كانت تحلم بها جدتي و جدي و يسيل لها اللعاب.
و مع ذلك فالبؤس موجود و التعاسة مازالت هي القاعدة و الشكوى مستمرة على جميع المستويات.. تشهد بذلك أعمدة الصحف و الأغاني و الكتب و أخبار الإذاعات و وجوه الناس المربدة المتجهمة في الشارع و مشاكساتهم الدائمة و صدورهم الضيقة بكل شيء.
لا شيء مما تصور الإنسان أنه سوف يسعده قد أسعده و هو ما كاد يمتلك ما كان يحلم به حتى زهد فيه و طلب غيره.. و هو دائما متطلع إلى ما في أيدي الآخرين غافل تماما عما في يده.. ينسى زوجته و يرغب في زوجة جاره مع أن زوجته أحلى و أجمل.. و لكنها الرغبة التي لا تشبع، و التي يتجدد نهمها دائما و تتفتح شهيتها على كل ممنوع و مجهول.
و لهذا أقام بوذا ديانته على قتل الرغبة و الخلاص منها باعتبارها سبب الشقاء، و لا خلاص من الشقاء إلا بالخلاص من الرغبة و قتلها و الوصول إلى حالة من السكينة الداخلية الزاهدة في كل شيء و العازفة عن جميع الرغبات.
و الله يكشف لنا الحقيقة بشكل أعمق في القرآن فيقول إنه خلق الدنيا و لها هذه الطبيعة و الخاصية فهي (( متاع)).
(( إنما هذه الحياة الدنيا متاع)).
و (( المتاع)) هو اللذة المستهلكة التي تنفذ.. من خصائص الدنيا كما أرادها خالقها أن جميع لذاتها مستهلكة تنفذ و تموت لحظة ميلادها.
في كل لذة جرثومة فنائها..
الملل و الضجر و العادة ما تلبث أن تقتلها..
هي الطبيعة التي أرادها الله للدنيا، لأنه أرادها دار انتقال لا دار قرار.. و لهذا جعل كل لذة بلا قرار و لا استقرار.. لأنه لم يرد لهذه اللذات أن تكون لذات حقيقية و إنما أرادها مجرد امتحان لمعادن النفوس.. مجرد إثارة تختبر بها الشهامة و النبل و العفة و صدق الصادقين و إخلاص المخلصين.
و الذي يدرك هذا سوف يستريح تماما و يكف عن هذه الهستيريا التي تخرجه من شهوة لتلقي به في شهوة، و تقوده من رغبة لتلقي به في أتون رغبة، و تجره من جنون لترمي به في جنون.
سوف يريح و يستريح و يحاول أن يروض نفسه و يستصفي روحه و يطهر قلبه و يعمل للعالم الآخر الذي وعد به الله جميع أنبيائه بأنه سيكون العالم الذي تكون فيه اللذة حقيقة.. و الألم حقيقيا.
و هو لن يندم على ما سوف يفوته من لذات هذه الدنيا، لأنه علم تماما و بالتجربة و الممارسة أنها لذات خادعة تتفلت من الأصابع كالسراب.. و هو قد قرأ التاريخ و عرف أن مال قارون لا يزيد الآن بالحساب الحالي عن عدة مئات من الجنيهات بالعملة النحاسية.. و هكذا قدرت جميع خزائنه بالاسترليني.. و ما أكثر من يملك مئات الجنيهات الآن و يشكو الفقر، و يلعن اليوم الذي ولد فيه.. مع أنه بحساب التاريخ أغنى من قارون.
إنها الخدعة الأزلية..
تحلم بامتلاك الأرض فإذا بالأرض هي التي تمتلكك و هي التي تكرسك لخدمتها..
تتصور أن المال سوف يحررك من الحاجة فإذا بالمال يفتح لك أبواب مطالب أكثر و بالتالي يلقى إلى احتياج أكثر.. و كلما احرزت مليونا.. احتجت إلى ثلاثة ملايين لحراسة هذا المليون و ضمانه..
و تدور الحلقة المفرغة و لا نهاية.
و هذه طبيعة عالمنا الكذاب الذي نمتحن فيه.
كلنا نعلم هذا.. و مع ذلك لا نتعلم أبدا.
الذي شنق نفسه بسلك الكهرباء
روسيا و أمريكا التقتا و تصافحتا في الفضاء و لم تستطيعا أن تلتقيا على الأرض.
الإنسان قطع ربع مليون ميل إلى القمر و لم يستطع أن يقطع بضع خطوات لينقذ جارا له يموت في فيتنام و كمبوديا و القدس.
المسافات بين قلوب الناس أصبحت أكبر من المسافات بين الكواكب، و كل يوم يزداد الأخ عن أخيه تجافيا و بعدا.
إنسان اليوم بدل أن يشغل نفسه بقتل الميكروبات أصبح يزرعها و يسمنها و يربيها ثم يصنع منها قنبلة ميكروبية ليلقيها على جاره.
و يجاوب عليه جاره بنفس أسلوبه ضاحكا في جنون.
- قنبلة ميكروبية.. و ما جدواها؟ لقد سبقتك لقد اكتشفت غازا للشلل أرميه عليك فترقد مشلولا مثل صرصور قلبوه على ظهره، فيصفق الآخر و يهلل كالمعتوه.
- قديمة.. أنا عندي صواريخ مدارية تدور الآن في فلك حولك و أستطيع بضغطة واحدة على زر أن أنزل عليك الموت كالمطر.
فيخرج الآخر لسانه ساخرا.
- هذه لعبة فات أوانها، فقد اخترعت صواريخ مضادة تصطاد صواريخك و تفجرها في الهواء.
فيهتف الآخر:
- لن تستطيع، فقد بنيت شبكة مضادة ضد الصواريخ المضادة.
فيقهقه صاحبنا:
- نسيت يا أبله أنني بنيت شبكة ضد الشبكة.
فيصرخ الأول:
- هاها.. أنت حمار تذكر أن عندي مخزونا من القنابل الذرية يكفي لتمزيق القارة التي تسكنها.
فيصرخ الثاني:
فلتذكر أنت أيضا أن عندي مخزونا من القنابل الأيدروجينية يكفي لشطر الكرة الأرضية كلها نصفين.
و أعجب ما في هذا الحوار الهستيري أنه يجرى بالعلم و العقل، و المخترعات و المبتكرات، و الأفخاخ الإلكترونية و أنه حوار ينزف ذهبا و دولارات و ماركات و روبلات و فرنكات بلا نهاية
و رجل الشارع البسيط يمشي وسط هذه المظاهرة جائعا و عريانا قليل الحيلة لا يعرف بماذا يطلع عليه الغد.
هل هذا عصر العلم؟
أو عصر الجهل؟
أو أنه جهل العلم.
الله يعطينا الكهرباء.. فماذا نفعل بهذه الكهرباء؟!
إننا لا نفكر كيف نحولها إلى نور.
و لكننا مشغولون طول الوقت في المعامل و المختبرات نفكر كيف نحول هذه الطاقة الكهربائية إلى ظلام.
العالم يفكر في أذكى طريقة يلف بها سلك الكهرباء على عنقه لينتحر.
إنه علم الجهل!
إنه العلم الأسود.
و مثله مثل السحر الأسود الذي كان يحول به سحرة فرعون العصي إلى ثعابين.
لأنه علم بلا دين!
و عقل بلا قلب.
لقد طالت مخالبنا فأصبحت مخالب نووية.
و نمت أنيابنا فأصبحت أنيابا ذرية.
و ظل قلبنا على حاله. قلب حيوان الغاب.
تطور الإنسان إلى تنين.
و النهاية الآن مرهونة بمن يبدأ الحماقة. من يضغط على الزناد قبل الآخر!
أو من يفطن إلى الكارثة فيقود التطور إلى الاتجاه المضاد إلى تجاه التسامي بقلب الإنسان و روحه. بدون اعتبار لقوة يديه و متانة عضلاته.
الواقع الكذاب
ما نراه في الواقع ليس دائما هو الحقيقة..
حتى ما نراه رأي العين و نلمسه لمس اليد..
فنحن نرى الشمس بأعيننا تدور كل يوم حول الأرض، و مع ذلك فالحقيقة أن العكس هو الصحيح، و الأرض هي التي تدور حول الشمس.
و نحن نرى القمر في السماء أكبر الكواكب حجما، مع أنه أصغرها حجما.
و نحن نلمس الحديد فنشعر بأنه صلب متدامج، مع أنه في الحقيقة عبارة عن ذرات منثورة في فراغ مخلخل، و بين الذرة و الذرة كما بين نجوم السماء بعدا.. و ما يخيل لنا باللمس أنه صلابة و تدامج هو في الحقيقة قوى الجذب المغناطيسي الكهربائي بين الذرة و الذرة.. نحن نلمس القوانين بأصابعنا و ليس الحديد.
و نحن ننظر إلى السماء على أنها فوق، و الأرض على أنها تحت، مع أنه لا يوجد فوق و لا تحت.. و السماء تحيط بالأرض من كل جوانبها.
و الهرم بالنسبة لنا شيء لا يمكن اختراقه، مع أنه بالنسبة للأشعة الكونية شفاف كلوح الزجاج، ترى من خلاله و تنفذ من خلاله.
و صقيع القطبين الذي نظن أنه غاية في البرودة هو بالنسبة لبرودة أعماق الفضاء جحيم ملتهب.
و في الحقائق الإنسانية تكذب علينا العين و اللسان و الأذن أكثر و أكثر.. فالقبلة التي تصورناها في البداية مشروع حب نكتشف في النهاية أنها كانت مشروع سرقة.
و جريمة القتل التي أحس الجميع بأنها ذروة الكراهية يكتشف الجميع أنها ذروة الحب.
و ما قد يبدو للزوج أنه خيانة من زوجته لفرط إحساسها بجمالها قد يكون الدافع الحقيقي له هو إحساس الزوجة بقبحها و شعورها بالنقص، تحاول الخلاص منه باستدراج إعجاب الرجال، و الانتقال من خيانة إلى أخرى.
و ما تكتب عنه الجرائد بالإجماع على أنه بطولة قد يعلم البطل نفسه أنه كان انتحارا.
و في الحقائق الاجتماعية تتعقد الأمور أكثر، و يغرق الحق في شبكة من التزييف تشترك فيها كل الإرادات، و يصبح الحكم على الأمور بظاهرها سذاجة لا حد لها.
و في الحقائق التاريخية يكتب المؤرخون في كل عصر و من ورائهم السلطة، و تكتب أقلامهم ما يريد الأقوياء أن يقولوا.
و ما أصعب الوصول إلى الحقيقة..
إن الوصول إلى المريخ أسهل من الوصول إلى حقيقة أكيدة عن حياة وردة تتفتح كل يوم عند نافذتك.. بل إن الوصول إلى أبعد نجم في متاهات الفضاء أسهل من الوصول إلى حقيقة ما يهمس في قلب امرأة على بعد شبر منك.
بل إن عقولنا تزين علينا حتى عواطفنا نفسها، فنظن أن حب المجد يدفعنا و الحقيقة أنه الغرور و حب الذات.. و نظن أن العدالة هي التي تدفعنا إلى القسوة في حين أن الذي يدفعنا هو الحسد و الحقد.
من الذي يستطيع أن يقول.. لقد أدركت الحقيقة؟
من الذي يجرؤ أن يدعي أنه عرف نفسه؟
ليس من باب التواضع أن نقول.. الله أعلم.
و إنما هي الحقيقة الوحيدة الأكيدة في الدنيا.. إننا نجهل كل الجهل حتى ما يجري تحت أسماعنا و أبصارنا.
و برغم جهلنا يتعصب كل فريق لرأي.. و قد تصور كل واحد أنه امتلك الحق، فراح ينصب المشانق و المحارق للآخرين.
و لو أدركنا جهلنا و قدرنا لانفتح باب الرحمة و الحب في قلوبنا، و لأصبحت الحياة على الأرض جديرة بأن نحياها.
متى نعرف أنا لا نعرف؟!
لغز الرقم سبعة
اليهود يقدسون اليوم السابع من الأسبوع ( السبت) و يجعلون منه يوم راحة.. و السنة السابعة و يسمونها سنة السبت.. و كذلك 7 * 7 أي العام التاسع و الأربعون و يسمونه عام العيد.
و تقول لنا التوراة إن الله خلق العالم في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع.
و في الإنجيل يقول لنا يوحنا اللاهوتي في سفر الرؤيا إن الله يوم القيامة يفتح كتاب الأقدار، و يفض الأختام السبعة، فينفخ سبعة من الملائكة في سبعة أبواق و تحدث سبع كوارث تنتهي بها الدنيا.
و يحدثنا القرآن عن سبع سماوات، و سبع أبواب للجحيم، و سبع ليال عجاف مرت بها مصر أيام نبوة يوسف، و سبع ليال سخرت فيها الرياح المهلكة على قوم عاد، و سبعين رجلا جمعهم موسى لميقاته مع الله. و سلسلة في جهنم طولها سبعون ذراعا، و يقول للنبي الكريم: ( و لقد أتيناك سبعا من المثاني و القرآن العظيم).
و يقول إن الله خلق العالم في ستة أيام ثم استوى على العرش في اليوم السابع.
فإذا وضعنا الكتب المقدسة جانبا و جئنا إلى العلم فإنا نجده يقول لنا ما هو أعجب. فالنور يتزلف من سبعة ألوان هي ألوان الطيف، من الأحمر إلى البنفسجي. ثم يأتي بعد ذلك سبعة ألوان غير منظورة من تحت الأحمر إلى فوق البنفسجي، و هكذا في متتاليات سباعية.
و الموسيقى يتزلف سلمها من سبع نغمات: صول، لا، سي، دو، ري، مي، فا.. ثم تأتي النغمة الثامنة فتكون جوابا للأولى، و يعود فيرتفع بنا السلم سبع نغمات أخرى، و هكذا سبعات سبعات.
و في ذرة الأيدروجين داخل قلب الشمس يقفز الإلكترون خارجا من الذرة في سبع قفزات لتكون له سبع مدارات تقابل سبعة مستويات للطاقة، في كل مستوى يبث حزمة من الطاقة، هي طيف من أطياف الضوء السبعة.
و الجنين في بطن أمه لا يكتمل نموه إلا في الشهر السابع، و إذا ولد قبل ذلك لا يعيش.
و قد توارثنا الاحتفال (( بسبوع)) المولود.
ثم نحن قسمنا أيامنا إلى أسابيع، نجد ذلك في جميع الأمم دون أن يكون بينها اتفاق.
و نحن نجد رقم سبعة رقما فريدا لا يقبل القسمة، و ليس له جذر تربيعي، و لا يقبل التحليل الحسابي. فهو في ذاته وحدة حسابية.
و نجده مستعملا في جميع طلاسم السحر و الأحجبة و التمائم، و في التسابيح، و في قراءة الأوراد.
و نجد للإنسان سبع حواس. حاسة السمع، و البصر، و الشم، و اللمس، و الذوق، و حاسة إدراك الزمن، و حاسة إدراك الوضع في المكان.
و نجد فقرات الرقبة سبعا. هي كذلك في القنفذ و هي كذلك في الزرافة، و هي كذلك في الإنسان و الحوت و الخفاش، و بالرغم من تفاوت طول الرقبة بين أقصى الطول في الزرافة و أدنى القصر في القنفذ.
هل كل هذه مصادفات.
و إذا صحت مصادفة واحدة فكيف يجوز أن تجتمع كل هذه المصادفات على نفس الرقم.
يجب أن نعترف أنه رقم له دلالة. و أنه رقم مهم و جوهري في بناء هيكل الكون و في تكوين الإنسان.
و أنه لغز يثير التفكير و التأمل.
يوجا
سعيت وراء علماء التشريح لأعرف ما هو الإنسان..
سرت وراء المشرط و هو ينقب في الأحشاء و المصارين و اللحم و العظم.. و هو يفتح القلب و يتتبع الأعصاب حتى نهايتها.. و هو يقطع المخ نصفين، ثم يقطع كل نصف إلى نصفين.
و بعد ثلاثة آلاف صفحة من كتب التشريح لم أصل إلى شيء و كأنما فتحت حقيبة فوجدت داخلها حقيبة ثم حقيبة، و في نهاية المطاف اكتشفت أني مازلت واقفا في مكاني أدق على الباب نفسه من الخارج، لم ألج إلى الداخل قط.
كنت طول الوقت أتحسس كسوة ذلك الإنسان لاكتشف أن القناع الذي يحجبه ليس ثيابه وحدها.. و إنما جلده ثوب آخر.. و لحمه و شحمه و عظامه كلها ثياب.. أما هو نفسه فبعيد.. بعيد.. تحت هذه الأقمشة السميكة من اللحم و الدم.
قالت لي كتب التشريح إن الإنسان مجموعة من الأحشاء في قرطاس من الجلد.
و لكنها لم تصف لي الإنسان على الإطلاق، و إنما وصفت ثيابه.. أما قلبه، أما عواطفه، فإنها ليست في تلك الكتب.. إنها فينا نحن الأحياء.
إنها الزامر الذي ينفخ من الداخل في ذلك البوق الجسدي الذي يتألف من الفم و اللسان و الشفتين و اليدين و الرجلين فتنطق و تتحرك كأنما هي دمى خشبية تحركها خيوط خفية من وراء خباء.
إنها العاطفة.. الإرادة.. الروح.. النفس.. ال أنا.. سمها كما تشاء.. و لكنها دائما غاية في الوحدة و البساطة.
وراء هذا العديد المتعدد من الأعضاء هناك وحدة..
هناك دائما واحد فقط يتكلم من داخل المعمار الجسدي المعقد التركيب المتعدد النوافذ و الشرفات.. واحد فقط بالرغم من هذه الألوف المؤلفة من الأنسجة و الملايين بلا عدد من الخلايا.
فإذا نظرت إلى الطبيعة حولك بما يتعدد فيها من إنسان و حيوان و نبات لمست مرة أخرى نوعا ثانيا من الوحدة.. فهذا الشتيت المختلف من أشكال الحياة يخفى وراء وحدة.
ليست مصادفة أن تركيب جسمي و تركيب جسمك واحد.. و لا هي مصادفة أننا، لنا رئتان مثلما للحصان و الحوت و العصفور.. و أن رقبة الزرافة على طولها بها سبع فقرات مثل رقبتك القصيرة تماما.. و أن ذيل القرد لك ذيل مثله ضامر متدامج ملتحم في مؤخرتك.. و بالمثل أجنحة الخفافيش هي أذرع مثل أذرعك لها العدد نفسه من الأصابع و العظام و المفاصل، كل ما تمتاز به أن جلدها مشدود عليها كالستارة.
و أنت و الشجرة تتألفان من المواد ذاتها.. كربون و ماء و أملاح معدنية.. و كلاكما تتحولان بالاحتراق إلى فحم.
و كل أنواع الحياة تنهدم بالموت فتستحيل إلى تراب.
أكثر من هذا، يقول لك الفلكي: إن هذا التراب يحتوي على المواد نفسها التي تتركب منها الشمس و النجوم و الكواكب.. و إنك مهما أوغلت في السماء بين النجوم تجد دائما الشيء نفسه، و المواد ذاتها..
كل العالم من مادة واحدة أولية.
لا يمكن أن تكون كل هذه مصادفات.
و إنما هي إصبع تشير إلى أن هناك وحدة نسيج في هذا الكون المتسع العظيم، و أنه بالرغم من الكثرة الظاهرة و التعدد و الاختلاف في الأشياء فإنها في الواقع ليست مختلفة.. و إنما هي مجرد عمائر و تراكيب مختلفة لشيء واحد.
كما تظهر الطاقة مرة على شكل كهرباء، و مرة على شكل حرارة، و مرة على شكل ضوء، و مرة على شكل مغناطيسية، و هي دائما الشيء الواحد ذاته.
الوحدة..
هذا هو موضوع اليوجا..
و المعنى الحرفي لكلمة يوجا بالهندية هو (( الاتحاد و إدراك الوحدة في الأشياء)).. ألا تنظر إلى الدنياعلى أنها أنت و هو و هي و هم.. ثم تتقاتلون جميعا.. فهذه خدعة.. و أنتم جميعا واحد، و ما يقع للآخر يقع عليك من حيث لا تدري.. و الألم الذي توقعه بالآخرين يجرحك حيث لا تحس في أعمق الأعماق.
هذا الصراع بينك و بين الآخرين هو تخريب أساسي لفطر واحدة.
إذا أردت أن تعيش بكل وجودك فعليك أن تفتح ذراعيك لتحتضن كل شي.
و حيثما توجهت لن تكون في غربة، فالطبيعة حولك هي أنت.. و الناس هم أنت.. و الوردة هي أنت.. و النجوم أنت.
أنت و أنا و هم شيء واحد.
هل تستطيع أن تدرك هذه الوحدة؟
علوم اليوجا تقول إنك لا تستطيع أن تدركها إلا إذا تحررت من تقاليدك.. و أخضعت جسدك و عواطفك و غرائزك و عقلك تماما.
إذا أردت أن تسمع صوت الواحد في داخلك فلا بد من إسكات صوت المتعدد أولا.. لابد من إسكات صوت الجسد و النفس و الغريزة و الرغبة و العقل.
و إخضاع الجسد تختص به علوم (( الهاتايوجا )) و هي التمرينات الرياضية المعروفة.
و إخضاع العقل تختص به علوم (( الراجايوجا )).. و هي تمرينات على التأمل و الركيز.
و إذا استطعت إسكات كل شيء فسوف تسمع من أعماق الصمت في داخلك صوت الواحد..
سوف تشعر بالقرابة الحميمة بينك و بين الاشياء.. سوف يعزف في داخلك لحن الانسجام بينك و بين العالم، إذ تدرك التوافق العميق بين عناصرك و عناصره.. و تسودك طمأنينة قدسية فلم يعد هناك داع للتعجل.. ما يفوتك باليمين سوف تحصل عليه باليسار و في الهند يسموا هذا الواحد (( اتمان)).. و في صلاة هندية قديمة لهذا الواحد يقول الشعر السنسكريتي:
إذا ظن القاتل أنه قاتل
و المقتول أنه قتيل
فليسا يدريان ما خفى من أساليبي..
حيث أكون الصدر لمن يموت
و السلاح لمن يقتل
و الجناح لمن يطير
و حيث أكون لمن يشك في وجودي
كل شيء حتى الشك نفسه..
و حيث أكون أنا الواحد
و أنا الأشياء.
و كأنما شعر جميع المفكرين بهذا الواحد الخفي، و حاول كل منهم أن يعبر عنه بطريقته.. في فلسفة شوبنهور كان اسمه (( الإرادة))، و في فلسفة نيتشه كان اسمه (( القوة))، و في فلسفة هيجل (( المطلق))، و في فلسفة ماركس ((المادة))، و في فلسفة برجسون (( الطاقة الحية))، و في جميع الأديان السماوية اسمه الله.
اتفقت جميع الأصابع التي تشير على أن هناك شيئا داخل خباء ذلك الكون يحرك خيوطه.. و كل الخلاف هو خلاف أسماء.
و لهذا تقول علوم اليوجا.. لا تحاول أن تسمي ما لا يمكن تسميته.. تأمل.. لا تنطق بحرف.. عليك بالإصغاء إلى صوت الصمت.
ثم جاء الإسلام بأجمل و أصدق تعريف بذلك الذي من وراء الصمت.. لم يخلط الخالق بالمخلوق كما خلطت اليوجا الهندية كل شيء في وحدة الوجود فجعلت من القاتل و القتيل و السكين شيئا واحد تضيع معه المسئولية و يضيع الجزاء في ضباب الشعر.. و إنما قدم القرآن أنقى صور التوحيد و أرقى صورة لوحدة الخالق و وحدة المخلوقات.. فتوحدها لأنها منه.. أم هو فمتعال عليها.. سبحانه.. ليس كمثله شيء..
العيال الذين ظنوا أنفسهم كبارا
أحيانا تراودني الرغبة في البكاء مثل طفل صغير يتيم تاهت عنه أمه في الزحام. و أشعر في تلك اللحظات أننا جميعا أطفال لا فرق كبير يذكر بيننا و بين أطفالنا في علمنا و معارفنا و أخلاقنا.
يخيل إلينا أننا اخترقنا السماوات بعلومنا. و لو فكرنا قليلا لوجدنا أننا مازلنا في حروف أ . ب . ت . ث .. و أننا كأولادنا على عتبة واحدة من الحيرة و التساؤل و الجهل.
يقول لك طفلك و هو يشاورعلى القمر: من أين جاءوا بهذا القمر يا أبي؟
و تجاوب عليه بكلام كثير. و تتلو عليه نظريات و افتراضات خلاصتها أنه لا أحد يعرف الحقيقة. و لا حتى أينشتين نفسه.
و يسألك طفلك عن جده الذي مات أين ذهب منذ موته.
و عن اخيه الذي ولد أين كان قبل مولده.
فلا تعرف جوابا.
فلا أحد يعرف ماذا قبل الميلاد و لا ماذا بعد الموت. و لا من أين. و لا إلى أين.
و يشاور لك على الكهرباء و يقول ما هذا؟ فتقول الكهرباء.
و يسأل ما هي الكهرباء فلا تجد جوابا.
و يسأل من أين أتت الكهرباء.
فتحكي له حكاية طويلة عن ماكينات النور و وابور النور. و أنت لا تدري ما النور. و لو سألت علماء الطبيعة كلهم ما وجدت فيهم واحدا يستطيع أن يدلك على ماهية النور و كنهه، و لا حتى نيوتن، و لا أفوجادرو، و لا فاراداي.
و ما أجهلنا على الدوام.
ابتكرنا علم النفس و كتبنا فيه المراجع و نحن لا ندري ما هي النفس.
و اخترعنا الساعات لنقيس الزمن و نحن لا نعرف ما هو الزمن.
و سكنا الأرض منذ ملايين السنيين و مازلنا لا نعرف عنها إلا قشرتها.
و يجتمع شهود الحادثة الواحدة فيختلفون في روايتها و يحكيها كل واحد بصورة. و هذا شأن الحادثة التي لم تمر عليها ساعة فما بال التاريخ الذي مر عليه ألوف السنين و كتبت فيه المجلدات، و كلها تخييل.
و ما أبعدنا دائما عن الحقيقة.
و ما أقل ما نعلم.
و ما أقرب الفارق بيننا و بين أطفالنا في علمنا و معارفنا.
بل ما أقرب الفارق بيننا و بين أطفالنا في أخلاقنا – نحن الأوصياء و المربيين و كل منا يحتضن أملاكه كما يحتضن الطفل لعبته و لا يطيق أن تمسها يد منتفع.
و فينا البخيل و الشره، و الأكول و الطماع، و من يسيل لعابه على المليم.
و الطفل يخطف و الكبير يسرق.
و الطفل يضرب و الكبير يقتل.
و الطفل يمد يده بالإيذاء و الكبير يمد عصاه و سكينه.
و الطفل يرمي بحصاة و الكبير العظيم يرمي بقنبلة ذرية.
ألا يحق لي بعد ذلك أن أبكي على هذا العالم من العيال الذين ظنوا أنفسهم كبارا؟!
راعي شرج الملك
من أطرف ما في كتاب الدكتور بول غاليونجي عن طب الفراعنة هذه الفقرة عن الطبيب (( خوي)).
و قد وجد اسمه مدونا على جدران معابد سقارة و أمامه هذه الألقاب: طبيب القصر الملكي، عميد أطباء القصر الملكي.. المسيطر على سم العقرب.. المبجل لدى إله الطب.. المقرب لدى أنونيس.. كبير أطباء الوجهين البحري و القبلي.. راعي الشرج.
كان الطبيب (( خوي)) هو راعي شرج الملك تيتي، و هذا يعني أن البواسير و الناسور مشكلة قديمة قدم التاريخ، و أنها كانت من أمراض الملوك، و أنها كانت من الأهمية لدرجة أن يلقب كبار الأطباء بأن الواحد منهم راعي شرج الملك.
لم أكن وحدي إذن الذي أصرخ من آلام البواسير، فقبل ذلك بثلاثة آلاف سنة كان هناك فرعون عظيم يصرخ مثلي من البواسير اسمه تيتي.
كانت هذه الحقيقة التاريخية فيها بعض السلوى لي.. و الذين جربوا آلام جراحة البواسير يعرفون قيمة لحظة سلوى في زوبعة العذاب التي تثيرها تلك الجراحة.
وضعت الكتاب جانبي على سرير المستشفى و قد أسعدني أن حالي هو حال الملك تيتي.
و أعطيت ذراعي في لهفة إلى الممرضة لتغرس فيه حقنة المورفين و قد تصورت أني الملك تيتي فعلا.
و ماذا تعني ثلاثة آلاف سنة في عمر الأبدية.
إنها لا شيء.. لا أكثر من ثلاث لحظات.. كل ما تغير في الأمر أن الطبيب (( خوي)) هو الآن المبجل سليل الآلهة الدكتور عبدالله صبيح.. و المكان مستشفى الشبراويشي.. و الزمان يناير 69 بعد ساعات من إجراء الجراحة.
و الألم الآن يذكرني بنفسه.
و كل ما فعله المورفين أني أصبحت أحلم بالألم بدلا من معاناته بعينين مفتوحتين.. و قد كان حلما بطول الليل كله.
و في الحلم كنت أرى أني الفرعون تيتي الكافر الذي ألقي في جهنم.
و في نار جهنم اجتمع حولي الزبانية يضعونني على خوازيق من نار..
و السماء فوقي حمراء كنحاس منصهر.
و الزبانية لا يرحمون.
و العذاب سوف يكون بطول الأبد.
و في الحلم نسيت تماما أنها جراحة.
و كان هذا بتأثير المورفين الذي صور لي من الألم المؤقت دراما لا نهائية من العذاب.
و كانت أسعد مفاجأة أن يطلع علي الصبح و يتبخر ضباب المورفين و اكتشف أني أتألم من جراح سوف تشفى.
و حمدت الإله الرحيم.
ما أجمل أن يهبنا الله الزمن الذي لا يدوم فيه شيء.
كل شيء يمضي ثم يصبح ذكرى.
أشد الآلام تتحول إلى مقالة طريفة تروى و أحاديث حول فنجان شاي.
أليست حياتنا معجزة.
و أليست معجزة أكبر أن تشفى و تلتئم جراح مفتوحة في مجرى الشرج تتلوث كل لحظة بما يلفظه الجسم من فضلات.. تشفى و تلتئم تلقائيا بدون بنسلين و بدون صبغة يود.. بالقدرة الإلهية التي وضعها الخالق في الأنسجة.
و من عجب أن الله حشد كل جنده عند مدخل الجسم و عند مخرجه.. عند الفم و الحلق و اللوزتين تشفى الجراح المفتوحة و تلتئم و هي في مجرى اللعاب الملوث و الأنفاس المحملة بالأتربة و الجراثيم.. و تقطع اللوزتان فيلتئم مكانهما بلمسة ساحر.
و عند الشرج حيث تخرج الفضلات تموج بالميكروبات القتالة تلتئم الجراح المفتوحة بقدرة القادر الذي سلحنا بأمضى أسلحته.
و لعل هذا هو السبب في الآلام حول منطقة الشرج حيث وضع الخالق أقوى شبكة من الأعصاب و نشر قنوات و أنهارا من الدم و الليمف و رصد الملايين من الكرات البيض و الخلايا الحارسة التي تلتهم كل ميكروب وافد فلا تبقي عليه.
و بعد هذا يشك شاك في العناية و الرحمة.
و يقول مفكر سطحي مثل سارتر إننا قد ألقي بنا في العالم بدون عون، و قذفنا إلى الوجود لنترك بلا عناية و بلا رعاية.
و لو أن سارتر تعلم الطب كما تعلم الأدب و درس الإنسان كما درس الوجود لعرف حقيقة نفسه و لقال كلاما آخر.
و لهذا تخطر لي أحيانا فكرة إلحاق كلية الآداب بكلية الطب.. فالإنسان و الوجود حقيقة واحدة. و لا يمكن إدراك الأول. دون إدراك الآخر. و ملامح الروح مكتوبة على الخلايا و ليست في كتب أرسطو.
و شفرة العناية الإلهية مكتوبة على أوراق الشجر و على مناقير الحمام و بتلات الورد..
الدودة التي يجعلها الله خضراء بلون الغصن الأخضر ليجعلها أقدر على الاختفاء عن عدوها.. و الفراشة الملونة بلون الوردة.. و السلحفاة الصفراء بلون الصحراء.
بشرة الزنجي التي تتلون في الشمس الاستوائية فتصبح سوداء كمظلة منصوبة عليه طول الوقت لتقيه لفح الشمس.
و البشرة البيضاء البلورية الشفافة لأهل الشمال حيث تختفي الشمس طول الوقت خلف الضباب، و حيث يشح الضوء لدرجة تجعل الجسد في حاجة إلى كل شعاعة عن أي طريق مثل تلك البشرة الشفافة الزجاجية.
أجسام الحيتان التي صاغتها العناية تلك الصياغات الإنسيابية كغواصات.. و كل سمكة و قد منحتها الطبيعة كيسا يفرغ و يمتلئ بالهواء لتطفو و تغوص كما تريد.
أفواه الحشرات و قد شكلتها العناية على ألف صورة و صورة حسب وظائفها.. الحشرة التي تمتص كالذبابة تشكل فمها على صورة خرطوم. و الحشرة التي تلدغ كالبعوضة تشكل فمها على صورة إبرة.. و الحشرة التي تقرص كالصرصور زودتها الطبيعة بمناشير و مبارد.
و الدودة التي تتطفل على الأمعاء زودتها الطبيعة بخطاطيف و كلابات حتى لا تقع في تجويف الأمعاء و تجرفها الفضلات.
و كلما تكاثر الأعداء على مخلوق أكثر الخالق من نسله، فدودة الإسكارس تبيض أكثر من مليون بيضة في الشهر، و تنجب أكثر من مليون دودة.
و في متاهات الصحاري حيث يشح الماء و تندر العيون خلق الله للأشجار بذورا مجنحة لتطير مع الرياح في الجهات الأربع و تحط في ألف شبر و شبر من الأرض، و ترحل مسافات شاسعة و كأنها بعثات استكشاف تذرع الصحاري.
و الخفاش الأعمى الذي لا يطير إلا في الليل زودته الطبيعة بأمواج ألتراسونيك يستكشف بها طريقه.
و الكتكوت الوليد ترشده الغريزة إلى أضعف مكان في البيضة فينقرها ليخرج إلى الوجود.
و الزنبور يعرف مكان المراكز العصبية عند فريسته فيحقنها بالسم و يشلها و كأنه جراح ماهر درس التشريح.
و النمل الذي قادته فطرته إلى اكتشاف الزراعة و تخزين المحصولات قبل أن يكتشفها الإنسان بملايين السنين.
و حشرة الترميت التي عرفت تكييف الهواء في بيوتها قبل أن يعرف الإنسان الأبواب و الشبابيك.
إن كل خطوة تخطوها في الطبيعة حولك تجد فيها أثر الرحمة و العناية و الرعاية.
لم يقذف بنا إلى الدنيا لنعاني بلا معين كما يقول سارتر.
إن كل ذرة في الكون تشير بإصبعها إلى رحمة الرحيم.
حتى الألم لم يخلقه الله لنا عبثا.. و إنما هو مؤشر و بوصلة تشير إلى مكان الداء و تلفت النظر إليه.
ألم الجسد يضع يدك على موضع المرض.
و ألم النفس يدفعك للبحث عن نفسك.
و ألم الروح يلهمك و يفتح آفاقك إلى إدراك شامل، فالدنيا ليست كل شيء، و لا يمكن أن تكون كل شيء و فيها كل هذه الآلام و المظالم. و إنما لابد أن يكون وراءها عالم آخر سماوي ترد فيه الحقوق إلى أصحابها، و يجد كل ظالم عقابه.
و بالألم و مغالبته و الصبر عليه و مجاهدته تنمو الشخصية و تزداد الإرادة صلابة و إصرا، و يصبح الإنسان شيئا آخر غير الحيوان والنبات.
ما أكثر ما تعلمت على سرير المستشفى.
و شكرا لأيام المرض و آلامه.
أفيون هذا الزمان
تتبارى أجهزة التليفزيون و الإذاعة و السينما و صفحات المجلات و الجرائد على شيء واحد خطير هو سرقة الإنسان من نفسه. شد عينيه و أذنيه و أعصابه و أحشائه ليجلس متسمرا كالمشدوه أمام التليفزيون أو الراديو أو السينما، و قد تخدرت أعصابه تماما، كأنه أخذ بنجا كليا و راح يسبح بعينيه مع المسلسلة، و يكد ذهنه متسائلا: من القاتل، و من الهارب. و بين قاهر الجواسيس، و ريتشارد كامبل، و الأفيشات العارية في المجلات، و العناوين الصارخة في الجرائد ينتهي اليوم و الليلة، و يعود الواحد إلى فراشه و هو في حالة خواء و فراغ و توتر داخلي مجهول السبب، و حزن دفين كأنه لم يعش ذلك اليوم قط.
و الحقيقة أنه لم يعش بالفعل، و أن حق الحياة سلب منه، و أنه سلب من نفسه، و أخرج عنوة و ألقي به في مغامرات عجيبة مضحكة، و تساؤلات لا تهمه على الإطلاق. من الذي قتل شهيرة هانم! و لماذا تخون كلوديا كاردينالي زوجها في رواية (( الذئب في فراشي )) ؟ و أين الكنز في مسلسلة عبيد الذهب؟ و أين الحقيقة في رواية ارحمني يا حبيبي؟
و يمر اليوم تلو اليوم. و تظل هذه الأجهزة تقوم بما يشبه العادة السرية للمتفرجين، و تغرقهم في نشوات مفتعلة إلى درجة التعب، ثم تلقي بهم إلى الفراش آخر الليل منهوكي الأحاسيس، لا يدري الواحد منهم ماذا به بالضبط. لماذا يشعر بأنه مجوف تماما. و أنه لا يعيش أبدا، و أنه لا يقول ما يريد أن يقوله، و لا يسمع ما يريد ان يسمعه، و إنما هو يربط في أرجوحة تظل تدور به دورانا محموما حتى يغمى عليه تماما و ينسى ما كان يفكر فيه، و ما كان يريد أن يقوله، و ما كان يريد أن يسمعه، و ما كان يملأ منه القلب و العقل. و يتحول إلى حيوان أعجم مربوط العقل و الإحساس إلى هذه الأجهزة الغريبة التي تفتعل له حياة كلها كذب في كذب.
و هذه الظاهرة ظاهرة عالمية، بل هي من سمات هذا العصر المادي الميكانيكي الذي تحولت فيه أجهزة الإعلام إلى أدوات للقتل الجماعي.
و هو نوع من القتل الجميل الرائع. تخنق فيه العقول بحبال من حرير، و تخنق الخيالات بالعطور الفواحة. و تخاط فيه الشفاه بجدائل من شعر بريجيت باردو، و أرسولا انرس.
و كلما زادت مقاومة المتفرج لهذا الأفيون زاد المخرجون من المساحة العارية المسموح بها من صدر الممثلة و من ساقيها، و سكبوا كمية من الدم أكثر في رواياتهم، و كمية من البترول المشتعل أكثر على أعصاب الناس.
و حينما تنفجر الأعصاب في ظواهر متشابهة مثل ظاهرة الخنافس و الهيبز، و رقصات الجرك المجنونة، و أدب الساخطين و الغاضبين و اللاعنين، فهي دائما نتائج ذلك البخار المضغوط في جماهير الشباب التي قضي عليها بأن تعيش أسيرة عنكبوت الإعلام، و الأخطبوط ذي الألف اسم. الإذاعة و السينما و الجرائد. ذلك السجن ذي القضبان الجميلة من الأذرع العارية في المجلات و الروايات لتعيش معزولة عن معركة المصير و عن الإدلاء برأي في مأساة الحياة و الموت التي تجري على مساحة العالم كل يوم.
و حينما يدور الكلام عن عقار الهلوسة و الماريجوانا، و الحشيش، و الهيروين، و الكوكايين، و العصابات التي تروجه، فإنهم ينسون دائما مخدرات أكثر انتشارا و أخطر أثرا.
مخدرات تدخل كل بيت من تحت عقب الباب، و تقتحم على كل واحد غرفة نومه، و تزاحم إفطار الصباح إلى معدته و فنجان الشاي إلى شفتيه. تلك هي وسائل الإعلام التي تكاتفت فيما بينها – بتعاقد غير مكتوب – على أن تقتل الناس بقتل وقتهم، و تميتهم بالضحك و الإثارة و النكتة البذيئة، و تلك الكلمة الغامضة اللذيذة التي اسمها التسلية.
و تحت شعار قتل الوقت يقتل الإنسان، و يراق دم اللحظات، و يسفك العمر، فما العمر في النهاية إلا وقت محدود. و ما الإنسان إلا فسحة زمنية عابرة إذا قتلت لم يبقى من الإنسان أي شيء.
و مسئولية كل مفكر و كاتب أن يخرج على الخط، و يتمرد على هذا الإتفاق غير المكتوب بقتل الوقت في محاولة شريفة لإحياء وقت الناس بتثقيفهم و تعليمهم و البحث عن الحق، لا عن التسلية و إشراك الناس في مأساة مصيرهم، و إعادة كل واحد إلى نفسه و قد ازداد ثراء و وعيا لا سلبه من نفسه و سرقته من حياته، و رفع شعارات الحرية لتفسح الروح الإنسانية عن مكنونها.
على وسائل الإعلام أن تتحول من أفيون إلى منبه يفتح العيون و الأحاسيس على الحقيقة، و يدعو كل قارئ إلى وليمة الرأي و يدعو كل عقل معطل إلى مائدة الفكر، فتكون كرحلة تحشد الحماس عند كل محطة تقف عندها لا كخيمة للغاز المسيل الدموع مضروبة على الناس أو قنابل دخان تطلق للتعمية.
إن حضارة الإنسان و تاريخه و مستقبله رهن كلمة صدق و صحيفة صدق و شعار صدق. فبالحق نعيش، و ليس بالخبز وحده أبدا.
و إذا كان السؤال المطروح الآن:
ما هي صحافة اليوم؟
فهأنذا أقول لكم الجواب:
أن نقول الحق.
و أن نقول الجد.
و أن نقول المفيد و النافع و الصحيح.
و أن نحيي وقت القارئ لا أن نقتل وقته.
أنت امبراطور
لا تصدقني إذا قلت لك إنك تعيش حياة أكثر بذخا من حياة كسرى أنو شروان.. و إنك أكثر ترفا من امبراطور فارس. و قيصر الرومان. و فرعون مصر.. و لكنها الحقيقة.
إن أقصى ما استطاع فرعون مصر أن يقتنيه من وسائل النقل كان عربة كارو يجرها حصان..
و أنت عندك عربة خاصة، و تستطيع أن تركب قطارا، و تحجز مقعدا في طائرة!
و إمبراطور فارس كان يضيء قصره بالشموع و قناديل الزيت.. و أنت تضيء بيتك بالكهرباء!
و قيصر الرومان كان يشرب من السقا.. و يحمل إليه الماء في القرب.
و أنت تشرب مياها مرشحة من حنفيات و يجري إليك الماء في أنابيب!
و هارون الرشيد كانت عنده فرقة موسيقية تعزف له في أوقات لهوه و فراغه.
و أنت عندك مفاتيح الراديو توصلك إلى آلاف الفرق الموسيقية، و تحمل إلى أذنك المبهج و المطرب و الممتع من كل صوت و كل فن!
و الإمبراطور غليوم كان عنده أراجوز..
و أنت عندك تليفزيون يسليك بمليون أراجوز.
و عندك السينما سكوب و السيزاما!
و لويس الرابع عشر كان عنده طباخ يقدم أفخر أصناف المطبخ الفرنسي..
و أنت تحت بيتك مطعم فرنسي، و مطعم صيني، و مطعم ألماني، و مطعم ياباني، و محل محشي، و محل كشري، و مسمط، و مصنع مخللات و معلبات، و مربات و حلويات!
و قارون أغنى أغنياء العالم يقول لنا التاريخ إن كل ثروته لم تكن تزيد على مائتين من الجنيهات بالعملة النحاسية.. و هو مبلغ تستطيع أن تكسبه الآن في شهر.
و جواري الخليفة تجدهن الآن معروضات في بيجال بباريس بعشرة فرنكات للواحدة.. شقر و سمر و سود و بيض من كل لون أوكازيون.
و مراوح ريش النعام التي كان يروح بها العبيد على وجه الخليفة في قيظ الصيف و لهيب آب، عندك الآن مكانها مكيفات هواء تحول بيتك إلى جنة بلمسة سحرية لزر كهربائي!
أنت إمبراطور.
و كل هؤلاء الأباطرة جرابيع و هلافيت بالنسبة لك..
و لكن يبدو أننا أباطرة أغبياء جدا.. و لهذا فنحن تعساء جدا برغم النعم التي نمرح فيها.
فمن عنده عربة لا يستمتع بها، و إنما ينظر في حسد لمن عنده عربتان.. و من عنده عربتان يبكي على حاله، لأن جاره يمتلك طائرة.. و من عنده طائرة يكاد يموت من الحقد و الغيرة لأن أوناسيس عنده مطار.. و من عنده زوجة جميلة يتركها و ينظر إلى زوجة جاره..
و في النهاية يسرق بعضنا بعضا، و يقتل بعضنا بعضا حقدا و حسدا.
ثم نلقي بقنبلة ذرية على كل هذا الرخاء.. و نشعل النابالم في بيوتنا.. ثم نصرخ بأنه لا توجد عدالة اجتماعية.. و يحطم الطلبة الجامعات.. و يحطم العمال المصانع..
و الحقد – و ليس العدالة – هو الدافع الحقيقي وراء كل الحروب.
و مهما تحقق الرخاء للأفراد فسوف يقتل بعضهم بعضا، لأن كل واحد لن ينظر إلى ما في يده، و إنما إلى ما في يد غيره، و لن يتساوى الناس أبدا.
فإذا ارتفع راتبك ضعفين فسوف تنظر إلى من ارتفع أجره ثلاثة أضعاف، و سوف تثور و تحتج، و تنفق راتبك في شراء مسدسات.
لقد أصبحنا أباطرة.. هذا صحيح.. و لكننا مازلنا نفكر بغرائز حيوانات.
تقدمنا كمدينة و تأخرنا كحضارة.. ارتقى الإنسان في معيشته.. و تخلف في محبته..
أنت إمبراطور.. هذا صحيح.. و لكنك أتعس إمبراطور..
و سوف تقتل نفسك و تترك بطاقة مضحكة تقول فيها:
انتحرت بسبب الفقر.. لم أستطع أن أعيش إمبراطورا في عالم كله من (( السوبر أباطرة )).
هل أعجبك النص الأدبي نعم أم لا رأيك يحترم!
0 التعليقات:
إرسال تعليق